Masjedpajoh.ir
Masjedpajoh.ir
Masjedpajoh.ir
دور المساجد الحضاری والدور المسجدی فی الحفاظ
دو شنبه, 13 بهمن 1399

تقدیم الدراسة

یمثل المسجد أهم علامة تمیز المسلم عن غیر المسلم، والمسجد لیس مکانا یصلی فیه المسلمون فحسب، ولکنه بالإضافة للصلاة، فهو یُعتبر مکانا للاجتماعات للتشاور فی الشأن الإسلامی، وتحفیظ القرآن الکریم، وکان المسجد یمثل مقر الخلافة ومنه تُتخذ القرارات وتُرسل الجیوش، ویجلس فیه طلاب العلم إلى أساتذتهم، ویمکن القول إن المسجد یمثل هویة للمسلم، هویة خاصة تمیزه عن غیره، وقد بُنیت المساجد فی کل دول العالم تقریبا، ومنذ أن بنى النبی الأعظم صلى الله علیه وآله وسلم مسجد قباء ثم مسجده الشریف، والمساجد تُبنى فی کل منطقة یصل إلیها المسلمون کعلامة ممیزة لهم، حتى یمکن القول إن الحضارة الإسلامیة هی حضارة مساجد ... وفی هذه الدراسة نکتب عن دور المسجد فی الحفاظ على الهویة الإسلامیة للأقلیات المسلمة فی البلاد الأوربیة، حیث یقوم المسجد بدور فاعل وحقیقی للهویة المسلمة، والدراسة تنقسم إلى ثلاثة مباحث وخاتمة هی : التعریف بالهویة، والمساجد فی الإسلام ودور المساجد فی الحضارة الإسلامیة، ودور المساجد فی الحفاظ على هویة مسلمی الغرب.   

 

المبحث الأول

التعریف بالهویة الإسلامیة

الهویة هی مجموعة الأسس والمبادئ الدینیة التی تنظم الفکر الإسلامی وتنمى الثقافة بما یتناسب مع متطلبات العصر، والثقافة تشمل الفنون والآداب وطرائق الحیاة والتراث الحضاری، کما تشمل نظم القیم والمعتقدات والتقالید والحقوق الأساسیة للإنسان، ویعرف مالک بن نبی الهویة بقوله:" هی مجموعة الصفات الخلقیة والقیم الاجتماعیة التی یتلقاها الفرد منذ ولادته، وبناء على ذلک لابد أن تقوم الثقافة على الانسجام بین عناصرها وعلى نبذ کل دخیل علیها لأنها طریق الحیاة الکلیة للمجتمع.

إن الإسلام وهو الدین الذی ارتضاه الله سبحانه وتعالى لیکون منهجا سلوکیا وثقافیا وحضاریا اهتم بالجانب الفکری أیما اهتمام، ففی خطاب العقیدة یقول الله تعالى :( قل من یرزقکم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إیاکم لعلى هدى أو فی ضلال مبین)*(1). وفى خطاب العقل نجد التوحید ( أفلا ینظرون إلى الإبل کیف خلفت ) (2). وفى خطاب ما وراء المادة نجد ( قل انظروا ماذا فی السموات والأرض) (3). ونجد أن القرآن الکریم یضع منهجا ثقافیا متکاملا حتى فی بدایة العهد مع الحیاة الصادقة  وهو بدایة المعرفة.. (اقرأ) ومفهوم اقرأ- الإکثار من وسائل المعرفة فی شتى المجالات. فنجد أن اهتمام الإسلام بالعلم والتعلم والأخذ بأسباب المعرفة هو الطابع الأساسی الذی یمیز هویة هذه الأمة. فالأمة بدون (اقرأ) أمة جاهلة، وقفت عند حد الأمیة، فلا زیادة ولا تطور ولکن تأخر واندثار مهما کان العطاء من الأرض والسماء.

الهویة الثقافیة   

لقد فطنت الأمة الإسلامیة فی بدایة عهدها إلى قوة ثقافتها وعرفت أن هذه الثقافة تحوى کل شیء، ففی الثقافة الدینیة، نجد إشارات إلى الصناعة، کالإشارة إلى داود علیه السلام : ( وألنا له الحدید * أن اعمل سابغات وقدر فی السرد واعملوا صالحا... ) (4). وکالإشارة فی النجارة إلى سیدنا نوح : ( واصنع الفلک بأعیننا ووحینا ) (5). ومعنى ذلک أن هناک وسائل أخذ المسلمون الأوائل بها فوصلوا إلى أرقى درجات العلم والمعرفة فی عصرهم ومیزت هویتهم عن سائر الأمم، فأبو بکر الرازی وابن النفیس وابن الهیثم وجابر بن حیان وابن خلدون وأمثالهم من الأعلام أخذوا بالهویة الثقافیة الإسلامیة وتمسکوا بمنهج القرآن فی ذلک فوصلوا إلى ما وصلوا إلیه فکان هذا التراث الضخم الذی أخذ منه الغرب .

عوامل ضعف الهویة   

إن الحفاظ على هذه الهویة لیس بالأمر الیسیر أمام مغریات العصر ووسائل طمس المعالم والبعد عن الحقائق الدینیة، فقد بینها الله سبحانه وتعالى فی قوله : ( زین للناس حب الشهوات من النساء والبنین والقناطیر المقنطرة من الذهب والفضة والخیل المسومة والأنعام والحرث ذلک متاع الحیاة الدنیا والله عنده حسن المآب ) (6). فهذه الأشیاء المزینة إن لم یستخدمها الفرد والمجتمع الاستخدام المشروع الصحیح کانت کالتی تنوء به وتفقده هویته الثقافیة والفکریة، فعوامل فقدان الهویة الثقافیة کثیرة ومتعددة کالفکر الردیء والإعلام الهابط والثقافة الرکیکة، التی لا تمثل إلا سوء الأخلاق والمیوعة فی القیم.

وسائل الحفاظ على هویة الأمة الإسلامیة

من أهم الوسائل فی الحفاظ على الهویة زیادة الاهتمام بلغة القرآن : وذلک لأن الفکر الإسلامی یعتمد أساسا على مدلولات الألفاظ العربیة، وهذه المدلولات لا یتاح للفرد فهمها إلا إذا أحسن فهم اللغة العربیة التی هی لغة القرآن الکریم کما یشیر بذلک قوله تعالى :( إنا أنزلناه قرآنا عربیا لعلکم تعقلون ) (7). والاهتمام باللغة العربیة یساعد على فهم مقاصد القرآن ولغة الحوار فیه وأسالیبه المختلفة، وکذلک یحافظ على مد المسلم بالمعرفة المختلفة فی شتى مجالات الحیاة، حیث أن القرآن الکریم منهج حیاة، یحوى کل الدلائل على مقومات هذه الحیاة، قال تعالى : ( ما فرطنا فی الکتاب من شئ) (8). یقول الشیخ  الأستاذ محمد الغزالی فی کتابه : " تراثنا الفکری فی میزان الشرع والعقل" (9) : دروس التفسیر التی تلقیناها فی الأزهر لستین سنة خلت، کانت تطبیقا لقواعد اللغة والبلاغة، فما یعیها ویبرع فیها إلا متمکن من النحو والصرف والمعانی والبیان.. إلى أن قال : ورحم الله من علمونا اللغة العربیة والفقه الإسلامی وهم یفسرون القرآن الکریم، لقد أفدنا منهم کثیرا وکل ما أرید بیانه أن علوم اللغة والفقه وسائل لتقریر المعنى المراد، وسائل لابد منها، فلا یحسن التفسیر إلا من وعاها. ومن الوسائل التی تحافظ على الهویة الثقافیة للأمة الإسلامیة الآداب و الفنون : ونعنى بذلک مجموعة الأسالیب الفنیة التی یتخذها الکاتب أو الشاعر أو الأدیب أو الفنان للوصول إلى الهدف، والتی هی من الأسس فی الحفاظ على الهویة الثقافیة.

لقد وضع العلماء مصطلحات لتحدید ما یسمى علما وما یسمى فنا، فما کان حقیقة مجردة ویحد بحدود جامعة مانعة، یدخل فی باب العلم وما کان غیر ذلک یدخل فی باب الفن، وقد یکون الفن جزءا من العلم. فالثقافة الغربیة قد ورثت ذوق الجمال من التراث الیونانی الرومانی، أما الثقافة الإسلامیة فقد ورثت الشغف بالحقیقة من بین میزان الفکر السیاسی . إن الإسلام قد جمعته نصوص ثابتة تحوى کل جوانب الحیاة من القرآن الکریم والسنة النبویة والسیرة الزکیة، غیر أنها فی غالبها مجملة.. ثم کان من السلف الصالح والصحابة أن وضعوا مناهج لفهم السنة الشریفة وبعض مدلولات القرآن الکریم فیما أشکل فهمه، وذلک بالاستعانة بنصوص السنة المطهرة المتفق على صحتها.. وهذه القواعد تعتبر تراثا یجب الحفاظ علیه.. إلا أن بعض ما عرض للأمة الإسلامیة من فتن أدت إلى اندثار بعض هذا التراث مما أساء فهم القرآن والسنة، لذلک یجب العودة والبحث عن هذا التراث وإحیائه والعمل به حتى یمکن الحفاظ على الهویة الثقافیة، وکان المسجد هو دار العلم والتعلم .

ولا یقل دور المکتبات عن دور المساجد والمدارس المضافة إلیها فی النهضة العلمیة، ومن وسائل الحفاظ على الهویة الثقافیة الإسلامیة- إحیاء التراث الإسلامی فی الآداب.                  

ویعتبر الإسلام أول عقیدة کرمت العلم والعلماء، ومعنى هذا، أنه یعنى بأصل الحضارة وقوتها الدافعة، ولیس لنا أن نعجب إذا کانت أول سورة نزلت على قلب النبی الکریم هی سورة العلق : ( اقرأ باسم ربک الذی خلق..... إلى قوله تعالى: ما لم یعلم ) (10).وجاء فی أوائل السور المکیة قوله تعالى : (ن والقلم وما یسطرون) (11)، (والطور  وکتاب مسطور  فی رق منشور ) (12). ومن المتعارف علیه أن أدوات العلم فی ذلک الوقت کانت : القلم، والمداد (أی الحبر) والرق الذی یکتب علیه، وقد أقسم الله بهذه الأدوات الثلاث، أقسم بالنون- وهى الدواة- على ما ذهب إلیه بعض المفسرین، وأقسم بالقلم- وهو وسیلة الکتابة المعهودة، وأقسم بالرق المنشور- و هو الوسیلة " الأداة " التی یحتفظ بالکتابة بواسطتها، وفى الحدیث الذی رواه أبو داود والترمذی: " العلماء ورثة الأنبیاء" ( طلب العلم فریضة على کل مسلم ) (13)، و( من خرج فی طلب العلم فهو فی سبیل الله حتى یرجع ) (14).

من هذا یتبین أن الإسلام قوة دافعة للحرکة الحضاریة، وأن الحضارة بجمیع ألوانها أصداء للإسلام، وأن العلوم والإنتاج والتعمیر من مقتضیات الإسلام، ومن المعروف والثابت تاریخیا، أنه فی الوقت الذی کانت البلاد الإسلامیة تمثل المشعل الفکری الوضاء الذی ینشر النور فیما حوله، ویملأ الدنیا علما ومعرفة، کانت أوروبا تعیش فی حالة من الجهل والتخلف، والضیاع والتمزق، ولما أرادت أن ترفع عن کاهلها عبء ذلک الوضع المهین التفتت إلى الحضارة الإسلامیة، تنهل من رحیق المعرفة والفکر ما أمکنها ذلک، ولذلک عکف علماؤها ورجال الدین فیها على دراسة الآثار العلمیة التی کتبها العلماء المسلمون من أمثال ابن سینا، والرازی والبستانی وابن الهیثم، والبیرونی والخوارزمی والفارابی وابن رشد وغیرهم، فکانت هذه المؤلفات تمثل المنهل العذب الذی کان طلاب المعرفة ینهلون منه وذلک فی  العلوم الطبیة والریاضیة والطبیعیة کالحساب والجبر والهندسة والعلوم والبصریات والفلک وعلم الجغرافیا والتاریخ.ومن وسائل الحفاظ على الهویة الثقافیة للأمة الإسلامیة زیادة الاهتمام بدراسات الشریعة الإسلامیة والتقریب بین المذاهب الفقهیة، لأن الشریعة الإسلامیة بحکم مصدرها الإلهی تختلف عن کل الشرائع الوضعیة من حیث النشأة، فهی لم تنشأ عن عادات وأعراف فرضت نفسها فی زمن معین ثم إذا تغیرت الظروف تغیرت العادات والأعراف، وإلا لزمنا إذا وحدنا بین الشریعة والقانون الوضعی أن نراجع الشریعة الإسلامیة ونعدل بعض أو کل قوانینها لتناسب التطورات وتنسجم مع الواقع.

والشریعة الإسلامیة بحکم مصدرها- إنسانیة الهدف- عامة لجمیع الناس شاملة لجمیع جوانب الحیاة- جاءت لهدایة الإنسان إلى الطریق السوی، ومن هنا فهی ثابتة الأسس والمعالم لا تتغیر بتغیر ظواهر الحیاة الواقعیة، فلا ترتبط بظروف طارئة ولیست نتاج جهد إنسانی أو عقل بشرى.

وغایة الشریعة الإلهیة- ضبط الحرکة البشریة لئلا تمضى شاردة على غیر هدى فتضل الهدف، وتنتهی بالإنسان إلى نکسة تقوده إلى الضیاع والتیه فی معزل الحیاة. وعظمة هذه الشریعة أغرت الأعداء من المستشرقین الذین هالهم أن تنبثق هذه الشریعة عن عقیدة ودین وبحقدهم وضغینتهم، کادوا ومکروا لهذه الشریعة من نقد لأحکامها وتشکیک بمصادرها ونشر الإشاعات المغرضة حول إمکانیة الشریعة لمواکبة الحیاة المعاصرة، وعدم قدرتها على تلبیة حاجات المجتمع الحدیث، ونحن المسلمین یجب أن یزداد اهتمامنا بدراسة الشریعة وإظهار قدرتها وعظمتها کما سبق بذلک علماء الأمة الذین تصدوا لهذه الظواهر ولم یتوقفوا أمامها بل ناصبوهم العداء وردوا علیهم من أصل معتقداتهم .

المبحث الثانی

المساجد فی تاریخ المسلمین

المسجد یحدد هویة المسلم

إن المسجد فی المفهوم الإسلامی الخالص هو مقر إعلان العبودیة الخالصة لخالقنا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً)، وبما أن العبادة فی المفهوم الإسلامی شاملة جامعة لحیاة الإنسان العابد لله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاَتِی وَنُسُکِی وَمَحْیَایَ وَمَمَاتِی للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ لاَ شَرِیکَ لَهُ وَبِذلِکَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِینَ)(15)   وبما أن العلم فی الإسلام شرط أساسی فی أداء العبادة الصحیحة بمفهومها الشامل، فلابد إذن من أن یقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن یصبح منارة ومقصداً علمیاً. وقد قام المسجد بدوره التعلیمی منذ أیامه الأولى، وحث رسول الله على هذا الدور العلمی لقوله صلى الله علیه وآله سلم:  من غدا إلى المسجد لا یرید إلا أن یتعلم خیراً أو یعلمه کان کأجر حاج تاماً حجه، وهذا المقصد التعلیمی أوضحه وبیَّنه صلى الله علیه وسلم فی حدیثه لیفرق بینه وبین البعد الشعائری من إقامة الصلوات فی المساجد. ولم یقتصر الدور التعلیمی للمسجد على الرجال، بل نافست علیه النساء، لما أخرجه البخاری فی صحیحه عن أبی سعید الخدری رضی الله عنه قال : قالت النساء للنبی: "غلبنا علیک الرجال فاجعل لنا یوماً من نفسک، فوعدهن یوماً لقیهن فیه فوعظهن وأمرهن " وفتح المسجد صدره للمرأة تشهد دروس العلم لیتأکد حق المرأة فی تحصیل العلم ومشارکة الرجل فی الحیاة، وکان رسول الله صلى الله علیه وسلم یشرف على حلقات العلم التی کانت تنتشر فی أرجاء المسجد النبوی الشریف، وشجع رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم  الوسائل المتاحة آنذاک لتوضیح المعانی والدروس سواء کانت بصریة أو سمعیة، ومن أمثلة ذلک ما رواه ابن مسعود بقوله : خطَّ لنا رسول الله خطاً بیده ثم قال: هذا سبیل الله مستقیماً  وخط عن یمینه وشماله ثم قال: هذه السبل لیس منها سبیل إلا علیه شیطان یدعو إلیه، ثم قرأ قوله تعالى ) وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَن سَبِیلِهِ )(16) ولو أن الوسائل التعلیمیة المتاحة لنا فی عصرنا هذا وجدت فی عصر رسول الله صلوات الله وسلامه علیه لحثَّ على استعمالها، وکان أول من یستعملها صلى الله علیه وآله سلم. واستمر المسجد فی التطور والنمو جیلاً بعد جیل، لیؤدی مهامه فی صناعة الحیاة لیصبح جامعات ومنارات علمیة وفکریة رائدة، والأمثلة کثیرة نذکر بعضها مثل جوامع الألف -وسمیت کذلک لأنه مضى على تأسیسها أکثر من ألف عام- مثل مسجد الفسطاط، وهو قلب الفسطاط الفکری، ومهد الحرکة العلمیة فی مصر، والذی کان یشهد مئات الزوایا العلمیة، والجامع الکبیر فی دمشق وجامع المنصور ببغداد، وجامع القرویین فی فاس بالمغرب الذی امتاز بالنظام التعلیمی الجامعی وطرق التدریس فیه، فکان له شروط دقیقة للتعیین ووظائف التدریس وتخصیص کراسی الأستاذیة والإجازات الفخریة، وکان له مساکن جامعیة خاصة للطلبة والأساتذة، ومکتبات متخصصة للدارسین الجامعیین، فقصدها المسلمون وغیر المسلمین من شتى أرجاء العالم، وخاصة من أوروبا، أمثال القس غربرت دوریاق الذی أصبح بابا روما. وکان التدریس یبدأ قبل طلوع الفجر وحتى الواحدة بعد منتصف اللیل، أما جامع الزیتونة بتونس فقد أبدع فی شتى مجالات العلوم النقلیة والعقلیة، وضمت مکتبته العامرة ما یزید عن مائتی ألف مجلد، وکذلک کان حال الجامع الأزهر الذی بدأ کغیره کمسجد لإقامة الشعائر التعبدیة وسرعان ما أصبح جامعة یدرس فیها العلوم المختلفة، وتخرج فیها علماء عمالقة فی کل مجالات الحیاة. واشترکت کل هذه الجامعات العظیمة فی تشجیعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة والتمرس علیها، فأصبح من المألوف أن یخالف الطالب أستاذه فی الرأی فی إطار الأدب المتعارف علیه، وبهذا أوجدت المدرسة العظیمة التی یطلق علیها بالمسجد - بمفهومه الشامل- أجیالاً ستظل معجزة العالم ومفخرته، ولها فضل على کل علوم الدنیا شرعیة أو کونیة أو إنسانیة، حیث کوَّنت أساس النهضة العلمیة والصناعیة فی الغرب. وحظی القرنان الخامس والسادس الهجریان بالتوسع فی بناء المدارس المنفصلة عن المساجد، مما أدى تدریجیاً إلى فقد شمولیة التعلیم فی حلقات المسجد لیقتصر على العلوم الشرعیة، وبدأ الضعف العلمی یدب فی الأمة، ومما زاد فی تسارع الضعف والانهیار حدوث کوارث ثلاث فی تاریخ أمة الإسلام على مدى ثلاثة قرون. أما الأولى فهی حرق مدینة الفسطاط عام 564هـ، وأما الثانیة فهی تخریب وحرق التتار لبغداد مرکز الحضارة الإسلامیة آنذاک فی عام 656هـ، أما الکارثة الثالثة فهی سقوط الأندلس عام 897هـ. وبفقد المسلمین للزعامة العلمیة، تم فقد قیادة الإسلام للبشریة وورثت أوروبا التراث العلمی، فحمله أبناؤها وقدروه حق قدره، فرفع قدرهم لیتسلَّموا من المسلمین الزعامة العلمیة وقیادة البشریة، وأصبح المسلمون یتخبطون فی الجهل وضاعت هویتهم الإسلامیة، فبدأوا یفصلون بین التعلیم الدینی والتعلیم الدنیوی، وهو مفهوم غریب عند جیل عمالقة المسلمین، وانفصل بذلک البعد الروحی والخلقی والتربوی للمسجد عن العلوم الدنیویة فضعف التحصیل فی علوم الدنیا التی فیها قوام الحیاة، وعمل الاستعمار على تقلیص التعلیم الإسلامی الشامل، فعملت بریطانیا على هدم الأزهر وفرنسا على جامع القرویین فی فاس، وکذلک الحال بالنسبة للزیتونة بتونس، ومن وسائل تحجیم وتحیید هذه المساجد الجامعیة إضعاف أوقافها، وتخرجت أجیال ممن صبغت بغیر صبغة الله وبغیر صبغة مدرسة الإسلام، وابتعد المسلمون أکثر فأکثر عن مفهوم الشمولیة العلمیة وعمارة الأرض والأخذ بأسباب کل ما یقیم الحیاة ویبنیها، بل وعندما فُقِدَت صبغة المسجد فُقِدَ الإخلاص فی تلقی العلوم، وسخرت أمم أخرى العلوم بمعزل عن القیم الروحیة وما یصلح النفس البشریة. إن ضعف دور المسجد هو انعکاس لضعف الأمة الإسلامیة، ولن تکون الصحوة الإسلامیة إلا عندما یقوم المسجد بدوره الشامل ویرتقی بأسالیبه ووسائله التربویة والتعلیمیة بما یتناسب مع احتیاجات العصر ومقتضیاته، لیصبح قلب الحیاة الإسلامیة من جدید، وهو واجب عصری حیث لا یتم واجب تعلیم الجیل إلا به(17) .

دور المسجد الحضاری فی حیاة الأمة

یخطئ من یظن أن دور المسجد یقتصر على أداء الصلوات الخمس فحسب، بل إنه فی بعض الدول الإسلامیّة یتم غلق المسجد بعد أداء الصلاة مباشرة، وکأن دوره الوحید هو الصلاة فقط، وفی الحقیقة دورُ المسجد فی الأمة الإسلامیّة أعمق من ذلک بکثیر، فلیست قیمة المسجد فی حجمه ولا فی شکله ولا فی زخرفته، بل على العکس من ذلک الرسول کان یَنْهَى عن هذه الشکلیات(18)، وکان ینهى عن المبالغة فی تزیین المساجد، کان یقول : "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى یَتَبَاهَى النَّاسُ بِالْمَسَاجِدِ"(19)، وهذا الحدیث فی مسند أحمد بن حنبل، وفی سنن أبی داود والنسائی وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنسٍ ؛ ولفظ ابن خزیمة : "یَأْتِی عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ یَتَبَاهَوْنَ فِیهِ بِالْمَسَاجِدِ ثُمَّ لاَ یَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِیلاً"(20)، فربما تجد إنسانًا یقوم ببناء مسجد کبیر، ثم لا تجد المصلین إلا صفًّا أو صفین، وقال: "مَا أُمِرْتُ بِتَشْیِیدِ الْمَسَاجِدِ"(21)، ومعنى التشیید الرفع فوق الحاجة، وقال ابن عباس: "لَتُزَخْرِفُنَّهَا کَمَا زَخْرَفَتِ الْیَهُودُ وَالنَّصَارَى"(22)، أی نهتمّ بالشکلیات من رخامٍ ومرمرٍ وحلیٍّ ونجفٍ وما إلى ذلک، ولا نهتم بالتربیة فی داخل المسجد.

إنَّ مَن یتأمل تاریخ المسلمین یلاحظ أنهم لم یتحجروا کغیرهم فی نظرتهم القدسیة إلى الأماکن التی شادوها لممارسة عبادتهم ؛ بل إنَّ أتباع النبی محمد- صلى الله علیه وعلى آله وسلم- کانوا أکثر مرونةً وتحررًا وواقعیة ؛ ذلک أنهم جعلوا من مساجدهم مؤسساتٍ عامة یزاولون داخل جدرانها شئون حیاتهم ویخططون تحت أروقتها، وإلى جانب سواریها تنظیم مجتمعهم للنهوض بمستوى شعوبهم والحفاظ على کیانهم.

فالمسجد عند المسلمین لاسیما فی إبَّان العهود الغابرة یوم کان الدین الإسلامی دستورًا عملیًّا للحاکمین والمحکومین على حدٍّ سواء قبل أن یتحوَّل إلى ما هو علیه الیوم، إذ أصبح مجرد مکان لأداء الصلاة فقط، مع أن هذا المسجد کان فی الماضی إلى جانب وظیفته کمکانٍ للتعبد والصلاة یؤدی فی نفس الوقت رسالته الحضاریة فی مختلف وجوه النشاطات الإنسانیة التی یعیشها البشر ویحتاجون إلیها لما یعینهم فی حیاتهم منفردین ومجتمعین فی آنٍ واحد، خاصةً النشاط العلمی الذی کان من الطبیعی أن یتخذ من المساجد مقرًّا منذ العصر النبوی، فکان النبی- صلى الله علیه وعلى آله وسلم- یجلس فی مسجده بالمدینة یُبصر الناس بشئون دینهم ودنیاهم ویُفسر لهم القرآن الکریم ویجیب عن أسئلتهم وینظم لهم شئون حیاتهم ویعقد ألویتهم الحربیة بالمسجد.

ومع اتساع دائرة الحضارة الإسلامیة وتطورها تجاوزت الرغبة فی طلب العلم نطاق العلوم الدینیة إلى غیرها من العلوم النقلیة والعقلیة، وأُضیفت ألوان جدیدة من ضروب المعرفة، ولم یقتصر دور المسجد على ما قدَّم من نشاطاتٍ علمیة واجتماعیة وإنسانیة، وإنما تجاوز کل ذلک، وأضاف إلیه دورًا رئیسیًّا هو حفظ الکیان الإسلامی والبلاد الإسلامیة من أن تجرفها التیارات المنحرفة أو تطغى علیها، وفی مجال الدفاع عن الأوطان فکان للمساجد وما یزال السهم الأوفر والقسط الأکبر فی إماطة کابوس الاحتلالات الأجنبیة عن کواهل المسلمین وبلادهم، هذا الدور الذی عبَّر عنه الکاتب الفرنسی جوستاف لابون فی کتابه القیم "حضارة العرب" حیث یقول : إن المسجد مرکز الحیاة الحقیقی عند العرب، وهکذا ولدت بین جنبات المساجد الجامعات العلمیة ومن أهم هذه المساجد.

إن أهم دورٍ للمسجد هو الحفاظ على إیمان المسلمین، وهذا هو الأساس الرئیسی الذی اجتهد النبی أن یغرسه فی نفوس أصحابه فی مکّة، وفی نفوس الأنصار فی بیعتی العقبة، إنه الإیمان بالله. والمسجد کما یظهر من اسمه أی مکان السجود لرب العالمین، والرضوخ الکامل له والطاعة المطلقة لکل أوامره، فإذا لم تکن تربیتی داخل المسجد، فقد ضاع منی دور کبیر جدًّا من أدوار المسجد، ومن الصعب جدًّا أن یجلس المسلمون فی بیت الله کی یأخذوا قرارًا أو یعتمدوا رأیًا ثُمَّ هم یخالفون ما أراده الله تعالى منهم، هذا المکان (المسجد) یحفظ على المسلمین دینهم ؛ لأجل هذا کانت حیاة المسلمین تدور فی مجملها حول محور المسجد، الصلاة فی المسجد، ولا تقبل الأعذار فی التخلف عن هذه الصلاة إلا فی ظروف ضیقة ومحدودة جدًّا. إن المسجد یقوی وینمی الروابط والأواصر بین المسلمین، ویذیب الفوارق بینهم، فالحاکم یصلی بجوار المحکوم، والوزیر بجوار الغفیر، والمسجد یتعاون فیه المسلمون على البرّ والتقوى دون النظر إلى الفوارق الطبقیة التی بینهم. والمسجد مکان لقیادة الأمة، وإن سیاسة الأمة الإسلامیّة کلها من عهد الرسول وبعد ذلک کانت تُدار من داخل المسجد، فتسیر الجیوش من داخل المسجد، وقرارات الحرب من المسجد، والمعاهدات من داخل المسجد، واستقبال الوفود فی داخل المسجد، والقضاء فی المسجد، مقرّ الحکم فی الإسلام وبیت الحکم هو بیت الله. ولم یکن المسجد مقرًّا للحکم والسیاسة والقضاء فحسب، بل کان المسجد أیضًا مکانًا لإعلان أفراح المسلمین، ومکانًا لتربیة الأطفال، ومکان للترفیه أیضًا بأدب، وکان المسجد مأوى للفقراء وعابری السبیل، وکان مکانًا لمداواة المرضى. لیس معنى هذا أن نحوّل المسجد الآن إلى مستشفى ودار ضیافة ومحکمة ووزارة، لیس هذا هو المقصود، ولکن المعنى الذی یجب ألا یغیب عن العقل والذهن هو أن تربیة المسجد تربیة أساسیة فی إدارة کل هذه الهیئات، لأن الذی لا یعرف لله حقه لن یعرف للخلق حقوقهم، الذی لیس له ضوابط من الشرع لن تکون هناک حدود لظلمه وفساده وضلاله فی الأرض، الذی لا یعرف طریق المسجد لا یعرف طریق الحق والعدل والأمانة والشرف.

هذه المعانی السابقة تعرّفنا بوضوح المعنى العمیق الذی ذکره ربنا فی الآیة القرآنیة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِی خَرَابِهَا أُولَئِکَ مَا کَانَ لَهُمْ أَنْ یَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِینَ لَهُمْ فِی الدُّنْیَا خِزْیٌ وَلَهُمْ فِی الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ)(23) . هذا الذی منع الناس من تفعیل دور المسجد لم یؤثر فقط على المصلین فی المسجد، بل أثَّر فی المجتمع بکامله ؛ لذلک عظّم الله من شأن هذه الجریمة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِی خَرَابِهَا أُولَئِکَ مَا کَانَ لَهُمْ أَنْ یَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِینَ لَهُمْ فِی الدُّنْیَا خِزْیٌ وَلَهُمْ فِی الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ)(24) .  فهذا أول شیء فعله رسول الله فی بناء دولته، بنى مسجد قباء فی (قباء)، وبنى المسجد النبوی فی المدینة المنوّرة..

دور العلم من خلال المساجد والحوزات

انطلق التعلیم الدینی فی مبدأ نشوئه فی التاریخ الإسلامی من قاعدته الأولى "دار الأرقم بن أبی الأرقم بن أسد أبو عبید الله القرشی المخزومی"، حیث کانت الطلیعة الإسلامیة الأولى تتلقى علم رسالتها على الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله مباشرة. ولم تکن هذه الحرکة تهدف إلى تعلیم القراءة والکتابة فحسب، بل کانت تقود منهجا متکاملا للأخذ بالأمة إلى حیث الإیمان السدید بالرسالة السماویة، التی ضمت منهج حیاة متکامل مؤکد على أهمیة وضرورة التعلیم والتعلم والتربیة الوجدانیة على أسس سلیمة ومتینة استعدادا للانطلاق إلى حیث تحمل مسؤولیة البناء والإصلاح الحضاری الکبیر. وکان الرسول الأکرم  صلى الله علیه وآله یعلم أصحابه بآیات القرآن الکریم أولا بأول، حیث یحفظونها، ویرددونها ویتداولونها بین الأصحاب والمؤمنین، ثم یشیعونها بشکل واسع جدا بین عامة الناس.

 (1) الانتقال المدرسی 

ومع انتقال الرسالة الإسلامیة إلى نهجها العام وهجرة الرسول صلى الله علیه وآله إلى المدینة المنورة، وانضمام الکثیر من أهل مکة والمدینة إلى الدین الحنیف، وبناء أول مسجد فی المدینة یتصل فیه الناس بالرسول مباشرة للتعرف على رسالته وما یخبره الوحی من أحکام ومستجدات وضرورات ؛ لم تعد الدور الصغیرة تستوعب أداء مهمة جدیدة وکبیرة وواسعة بمثل ما ألقی على الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله من تعالیم وأدوار أضحت عظیمة وواسعة، فالمسجد بعد ذلک احتل الدور الأکبر عوضا عن دار الأرقم. وقد ورد عن الرسول صلى الله علیه وآله الکثیر من الأحادیث التی حثت على التعلیم والتعلم فی المسجد وعظم مکانة المسجد بالنسبة للتعلیم وساوت بین أجر التعلم والتعلیم فی المسجد وأجر الحج وأجر الجهاد فی سبیل الله(25).  فقد ورد عنه صلى الله علیه وآله  قوله : "من غدا إلى المسجد لا یرید إلا لیتعلم خیرا أو یعلمه کان له أجر معتمر تام العمرة، ومن راح إلى المسجد لا یرید إلا لیتعلم خیرا أو لیعلمه وفاه الله أجر حاج تام الحجة"(26). وقوله صلى الله علیه وآله : "من دخل مسجدنا هذا لیتعلم خیرا أو لعلمه کان کالمجاهد فی سبیل الله، ومن دخل لغیر ذلک کان کالناظر إلى ما لیس له"(27). فلیس هنالک تعارض بین المسجد ووظائفه العبادیة وبین التعلم والتعلیم، وربما أراد الرسول صلى الله علیه وآله من خلال تأکیده على التعلم والتعلیم فی المسجد إظهار مدى الاقتران بین العبادة ومعارف الإنسان المکتسبة فی المسجد، فالتعلم والتعلیم لابد وأن ینتهی إلى إصلاح ذات الإنسان وبناء نفسه وروحه وجسده بناء سلیما موافقا لتعالیم الدین والوجدان البشری وما یتولد عن العقل.

ولم یکن التعلیم فی المسجد مقتصرا على تعریف الناس بدینهم وأحکامهم، وما یستجد من عزائم، کعزیمة الحرب أو السلم، بل کانت تدور فی المسجد مستویات علیا من الدروس العلمیة والنقاشات الثقافیة المختلفة، کما کانت تدور حلقات تعلیم وتوجیه تربوی فی مختلف الشؤون العامة. وکان المسجد یُتخذ أحیانا بمثابة موقع للدراسات العلیا فی الأدب واللغة والمواضیع الثقافیة العامة، وقد اتخذ الأئمة علیهم السلام من بعد الرسول صلى الله علیه وآله من المساجد منطلقا لتعریف الناس بالتشیع وعلومه المختلفة، کما اتخذوه محلا للمناظرات العلمیة وللاتصال بالناس وإدارة شؤونهم، وتخرج على أیدیهم الکثیر من الأصحاب الذین کتبوا وحفظوا عنهم من خلال اللقاء والحوار معهم فی المسجد. فالإمام علی بن الحسین السجاد علیه السلام على سبیل المثال کان یعظ الناس ویزهدهم فی الدنیا ویرغبهم فی أعمال الآخرة فی کل یوم جمعة فی مسجد رسول الله صلى الله علیه وآله حتى حُفظ وکُتب عنه. وروى المجلسی عن الإمام محمد الباقر علیه السلام : أن الإمام الباقر " کان جالسا فی المسجد فجلس إلیه أبو حنیفة لیسأله عن مسائل" (28)، وقد عرف عن الإمام الصادق علیه السلام أنه کان یلقی دروسه فی حشد کبیر من طلبة العلم، حیث کان یجلس إلیهم فی المسجد حتى تخرج من بین صحابته الکبار أبان ابن تغلب الذی وثقه الأمام علیه السلام کمدرس أیضا یلتقی الناس ویعرفهم بفکر أهل البیت علیهم السلام ومرویاتهم فقال الإمام الباقر علیه السلام لأبان : " أجلس فی مسجد المدینة وافت الناس فإنی أُحب أن یُرى فی شیعتی مثلک "(29). ثم تطور التعلیم فی المسجد من الاستماع والنقل کما هو الحال بالنسبة للعلاقة العلمیة بین الرسول والناس الذین کانوا یتلقون شریعتهم من الرسول مباشرة إلى نظام الحلقات الدراسیة التعلیمیة، وهو نظام دعا وأکد علیه الرسول صلى الله علیه وآله. فعنه صلى الله علیه وآله قال : " بادروا إلى ریاض الجنة "، قالوا : یا رسول الله وما ریاض الجنة ؟ قال : " حِلَق الذِکْر "(30). وکانت هذه الحلقات تدرس شؤونا مختلفة کالتفسیر والفقه واللغة والآداب، فقد روی عن النجاشی أن أبان بن تغلب کان"قارئا من وجوه القراء، فقیها، لغویا، سمع من العرب وحکى عنهم، وکان أبان إذا قدم المدینة تقوضت إلیه الحلق"(31).

 وکان شیعة أهل البیت علیهم السلام یفدون إلى هذه الحلقات وینهلون منها علوم أهل البیت، وقال أبو الفیض للإمام جعفر الصادق علیه السلام : " کنت أجلس فی حلق شیعتکم بالکوفة" (32).

وأما مسجدا الکوفة والبصرة فقد عرف عنهما الکثیر من حلقات التعلیم فی مجالات مختلفة شهدها المئات من طلاب العلم، فعن الحسن بن علی بن زیاد الوشاء، قال لابن عیسى القمی : "إنی أدرکت فی هذا المسجد - مسجد الکوفة - تسعمائة شیخ کلٌ یقول حدثنی جعفر بن محمد علیه السلام(33).   وأما مسجد البصرة  فقد کان موئلا للمباحثات والمساجلات الکلامیة التی نشأت بین جدرانه بعد ذلک،" وهکذا قیل فی مساجد بغداد کمسجد ابن المبارک، ومسجد المنصور الذی کان "قبلة أنظار الأساتذة والطلاب"، وجامع عمر بن العاص فی الفسطاط، وجامع ابن طولون والأزهر الشریف فی مصر، أما جامع قرطبة فکان بحق جامعة من الجامعات الإسلامیة العالیة"(34) وقد دل اهتمام المسلمین بالمسجد فی شؤون شریعتهم وعلومهم على أن المسجد کان بحق مرکزا تدور حول رحاه حرکة المسلمین. وبما أن المسجد نفسه کان جامعا لکل الشؤون العامة والتعلیمیة منها على وجه الخصوص ؛ فقد کان أیضا محلا للتراکم العلمی الفکری الناتج عن المجریات الیومیة التی تبحث فی أوساط المسلمین وتناقش. 

(2) نقلة الدور والمساجد

وبتعاقب الزمن وتعرف الناس على الإسلام بشکل متدرج انسجاما مع نزول الوحی المعالج للقضایا وفق زمن حدوثها، ازدادت حصیلة المساجد من العلوم والأفکار والألفاظ المستجدة التی تفوه بها النبی  صلى الله علیه وآله، وتمیز بها الدین الجدید، ما جعل المسجد جامعا وجامعة لکل متعلق بشؤون الحیاة الیومیة للمسلمین.

وکانت الشورى التی اعتمدها الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله فی مناقشة ودراسة الأمور فی المسجد قبیل اتخاذ شأن أو قرار فیها ؛ قد أظهرت للمسلمین أیضا بعدا جدیدا ووسیلة لإنماء الفکر، من هنا بدأت المساجلات والحوار فی شؤون مختلفة ومتنوعة فی المسجد.  لکن المسجد نفسه لم یکن بدیلا کاملا عن المنازل والبیوت بعد عهد الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله. وتکمن الأسباب فی وجود خصوصیات أبرزتها عوامل عدة ربما کانت الأسباب السیاسیة والأمنیة وانقسام المسلمین إلى شطرین بعد وفاة الرسول صلى الله علیة وآله، وما تبع ذلک من مشاحنات وصراع حول شرعیة الخلافة والإمامة، هی إحدى دواعی العودة إلى البیوت للدراسة.  لکن اعتماد الرسول صلى الله علیه وآله فی بدایة دعوته لدار الأرقم محلا للتعلیم والتثقیف والبناء الفکری والإخبار عن مستجدات الوحی ؛ کان مثالا بارزا على أهمیة المنازل والبیوت فی تلقین العلم وتعلمه، ما جعل المسلمین یمارسون دور التربیة والرعایة التعلیمیة من خلال البیوت برغم تحول الرسول بعد ذلک إلى تنمیة دور المسجد. 

وتمیز أتباع اتجاه التشیع لأهل البیت على غیرهم بوضع أهمیة خاصة للبیوت کمحل للتعلم والتعلیم، بحکم کونهم مستهدفین من قبل الحکومات المتعاقبة، لکنهم لم یجعلوا البیوت بدیلا عن المساجد، ففی البیوت کانوا یمارسون دور التربیة والتعلیم فیما یخص مذهبهم وفیما کان محظورا تداوله من فکر وعلوم مختصة بأهل البیت علیهم السلام من قبل الدول المتعاقبة، وفی نفس الوقت کانت المساجد بالنسبة لهم کما کانت للرسول الأکرم صلى الله علیه وآله، یتصلون من خلالها بعامة الناس، ویتحاورون فیها فیما یتعلق بشأن الخلافة والإمامة وغیرهما. 

وسمیت اللقاءات التعلیمیة فی البیوت والمنازل بالمجالس، حیث کان لفظ المجلس یطلق على مکان أو جزء محدد من البیت ربما کان منعزلا عن بقیة أجزاء المنزل تعقد فیه الدروس، کما کان یطلق لفظ الجلسة على حلقة الدرس أیضا. وتذکر الکثیر من مصادر ومؤلفات الشیعة القدیمة على وجه الخصوص هذا اللفظ حین یعقد المجلس بحضور إمام من أهل البیت علیهم السلام أو بحضور جمع من صحابة الأئمة علیهم السلام، فقد ذکر المفید فی فصوله أن بعض صحابة الإمام الصادق علیه السلام، کانوا یحضرون فی مجلسه لکسب معارف أهل البیت علیهم السلام (35).

ویشیر زرارة ابن أعین إلى العلاقة العلمیة الخاصة بینه وبین الإمام الباقر علیه السلام، حیث کان الإمام یمتلک من العلوم ما لا یوجد مثیل لها بین عامة الناس، أو ما یعد من خصوصیات أهل البیت من العلوم، وأما أبو بصیر فهو یقول : دخلت على أبى عبد الله علیه السلام فقلت له : جعلت فداک أنی أسألک عن مسألة، هاهنا أحد یسمع کلامی؟، قال : فرفع أبو عبد الله علیه السلام سترا بینه وبین بیت آخر فأطلع فیه ثم قال : یا أبا محمد سل عما بدا لک، قال : قلت : جعلت فداک إن شیعتک یتحدثون أن رسول الله صلى الله علیه وآله علم علیا علیه السلام بابا یفتح له منه ألف باب..."(36) .

واشتهر بعض کبار علماء اتجاه التشیع، کمحمد بن عمران (ت384هـ)، بجعل بیوتهم محلا لتعلیم وتعلم العلوم، وکان أشیاخه یحضرون فی داره فیسمعهم ویسمع منهم. وأما دار محمد بن مسعود العیاشی الذی اشتهر بکتبه التی تزید على 200 مصنف، فهی من الدور المهمة عند شیعة أهل البیت علیهم السلام، حیث " کانت کالمسجد بین ناسخ أو مقابل أو قار أو معلق، مملوءة من الناس، وصنف کتبا فی أصناف العلوم وکان فی أول أمره عامی المذهب ثم استبصر "(37) .

وعرف الکثیر ممن برز واشتهر من علماء الشیعة، من بینهم : حیدر بن محمد السمرقند، الذی روى ألف کتاب من کتب الشیعة بقراءة وإجازة"(38).  کما اشتهرت مجالس الشریف المرتضى التی کانت حصیلتها تألیف کتاب "الدرر والغرر" و"الأمالی"، وهی مجالس أملاها... تکلم فیها عن النحو واللغة والتفسیر و الحدیث وغیر ذلک (39) .

وبرغم تحول وظیفة التعلیم فی الکثیر من أحواله إلى المنازل والدور إلا أن المسجد ظل محتلا للمرکز الأول من حیث تنوع العلوم وعدد الحضور فی أروقته وزوایاه.  وذکر خلال عهد الدولة الأمویة أن أکثر حکوماتها المتعاقبة اعتبرت المسجد مرکزها الأول الذی تلتقی فیه الکثیر من الفعالیات العلمیة الرسمیة والشعبیة، بینما وضع أتباع أهل البیت علیهم السلام اهتماما خاصا للمجالس والحلقات فی الدور إضافة إلى المسجد. وکان ذلک من أهم العوامل التی وفرت لتراث أهل البیت علیهم السلام الحمایة والوقایة فی مقابل ألوان متعددة من الوضع فی الروایة عن النبی صلى الله علیه وآله، ففی الدور کانت تجری عملیة تدوین وحفظ وتدویر وتصنیف کبیرة لروایات أهل البیت علیهم السلام، ومن خلالها تلقى اتجاه التشیع مناهجه فی العلوم المختلفة.

(3) انفصال المدرسة عن الدور

تطورت الدروس فی المساجد وتنوعت واتسعت فی آفاقها العلمیة، ولم تعد مهمة التدریس ووظیفة تدویر العلوم مقتصرة على الصحابة من الرجال والنساء الأولین بصفتهم مدرسین وطلاب فحسب، بل الأمر تعدى إلى الجیل الجدید الذی تربى فی أحضان جیل الوحی، وهو جیل فرض نفسه بقوة على مراحل البناء النفسی والروحی التی وضعت أسسها بشکل أکثر وضوحا فی المدینة المنورة خلال مراحل الاستقرار التی أعقبت فتح مکة المکرمة. وبعدما وصلت عملیة تبادل العلم ونقل نصوص السنة إلى مستوى من الکمال بین مرحلة الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله والمراحل التی تلت وفاته بالتلازم مع وظیفة تعلیم الکبار القراءة والکتابة وتحمیلهم تعالیم الوحی التی لامست العلاقة مع کل شرائح المجتمع بمن فیهم الأطفال والصبیان ؛ ظهر أمر مستجد فرض نفسه بقوة على المسلمین وکان لزاما علیهم الاستجابة له ؛ تمثل فی وظیفة استیعاب جیل الأطفال والصبیان المرافقین للصحابة إلى المساجد. کل ذلک تطلب عقد أماکن خاصة تجمع الأطفال والصبیان تحت إشراف عدد من المهتمین بالشأن التعلیمی کمربین ومدرسین. یضاف إلى ذلک " إن جملة من المعلمین کانوا بالإضافة إلى انشغالهم بالتعلیم یمارسون بعض الأعمال الحرفیة والمحدودة، وحیث لم یفلحوا فی تأمین مورد مناسب، لم یکن أمامهم إلا اتخاذ المدارس وسیلة تکسب، وهو رأی (فون کریمر) von kremer، حیث جاء فیه : "... وتبعا لرأی (von kremer) کان هناک جماعة شغلوا بالتعلیم معظم وقتهم وحاولوا أن یرتزقوا من طریق حرف بسیطة کانوا یقومون بها مع التدریس، لکنهم فشلوا فی الحصول على مستوى مناسب من العیش، فلم یکن من بد – حینئذ- من إنشاء المدارس لتضمن لهم جرایات تقوم بحاجتهم"(40). 

وبهذا المستوى من النمو فی حلقات الدرس والتوسع فی الأفق التعلیمی عند المسلمین واضطرار بعضهم لاستخدام الدور والاستمرار فی تبادل العلم من خلالها، سواء للصغار أو الکبار ؛  تطور عن ذلک ما عرف بعد ذلک بالمدارس الدینیة التی أنشئت فی أماکن مستقلة قریبة من المساجد أو قریبة من بعض أضرحة وقبور علماء المذاهب أو الفقهاء أو الأولیاء  الصالحین بعد ذلک.  "ففی سمرقند کانت هناک مدرسة بجانب القبر المنسوب إلى قثم بن العباس ابن عم النبی صلى الله علیه وآله . وأما قبر الفقیه الحنفی أبى حفص الکبیر المتوفى فی سنة (217هـ/832م ) مُدخل المذهب إلى بخارى وتلمیذ ابن الحسن الشیبانی، فقد تحول إلى مدرسة منذ القرن الرابع الهجری ودرس فیها عدد من أعضاء أسرته الفقه الحنفی، وإما قبر الفقیه الشافعی القفال الشاشی بطشقند فقد بنیت بلصقه مدرسة ما تزال موجودة إلى الیوم، فهی المقر للمفتی هناک. وفی بغداد أقیمت مدرسة على قبر أبى حنیفة سنة (457هـ/1065م).                                  

وفی القاهرة أقیمت مدرسة على قبر الشافعی سنة (575هـ /1179م)"(41). 

من هنا کان قرار الشیخ أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسی فی سنة (449هـ/1056م)  جاء تعقیبا على إحراق السلاجقة کتبه وداره وکرسیا یرتقیه أثناء الدرس فی بغداد، إذ لجأ إلى مدینة النجف الأشرف فی العراق لیجاور مرقد علی بن أبى طالب علیه السلام، و"لینشئ هناک ما عرف بالحوزة العلمیة"(42). 

ویختلف المؤرخون والباحثون حول أول نشوء لأول مدرسة دینیة وتاریخه والأسباب الرئیسیة وراء هذا النشء الجدید.  وکان أول نشوء لهذه المدارس قد عرف بین القرنین الرابع أو الخامس الهجریین، لکن المرجح أن أهل نیسابور وبخارى کانوا أول من أنشأ المدارس فی النصف الأول من القرن الرابع الهجری.  کان من بینها "مدرسة ابن فورک المتوفى سنة (1014م)، والمدرسة البیهقیة والمدرسة السعدیة التی بناها (نصر بن سبکتکین) أخو السلطان (محمود غزنوی) دون أن ننسى مدارس بخارى التی أنشئت فی الفترة نفسها التی أنشئت فیها مدارس نیسابور"(43). وقد سجلت بعض مصادر اتجاه التشیع أن المدارس کانت متواجدة خلال حیاة الشریف المرتضى (436هـ)، "حیث اتخذ دارا سماها دار العلم وفتحها لطلبة العلم، وعین لهم جمیع ما یحتاجون إلیه، ویذکر شمس الدین ابن خلکان (1211-1281هـ)، خلال حدیثه عن حیاة الشریف المرتضى ومکانته العلمیة عند أتباع اتجاهی التشیع والخلافة، أن ابن بسام الأندلسی ذکر فی أواخر کتاب "الذخیرة" : "کان هذا الشریف إمام أئمة العراق بین الاختلاف والاتفاق، إلیه نزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها وجامع شاردها وانسها، ممن سارت أخباره، وعرفت أشعاره، وحمدت فی ذات الله مآثره وآثاره، إلى توالیفه فی الدین وتصانیفه فی أحکام المسلمین.."(44)

ویشار أیضا إلى"المدرسة النظامیة"التی أقامها الوزیر نظام الملک فی بغداد سنة (459هـ-1067م) کأول مدرسة أقیمت فی التاریخ الإسلامی ولها نظامها ومنهجها الخاص فی التدریس ولها مواردها المالیة الثابتة تصرف على طلابها ومدرسیها ومساکنهم، کما أشار إلى ذلک ابن خلکان فی کتابه "وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان". ویذهب بعض الباحثین إلى القول بأن عضد الدولة البویهی (369هـ- 980م) کان أول من أسس مدرسة فی العراق سمیت بـ (العضدیة) خلال فترة زیارته لکربلاء المقدسة ولم یعد لها اثر الیوم بعد أن دمرت فی عام (1935م)، إضافة إلى مدرسة أخرى بناها عضد الدولة بالقرب من مقبرة آل بویه بعد عامین من إنشاء أول مدرسة فی کربلاء، وقد أزیلت فی عام (1948م). وذکر (ابن الکازرونی) المتوفى فی سنة (697هـ) فی مؤلفه (مختصر التاریخ) أن الخلیفة العباسی"المعتضد بالله"، قد أسس فی القرن الثالث الهجری (369هـ) ما یشبه الجامعة لیستکمل بها (دار الحکمة) التی أسسها الرشید. 

ویبدو أن المدارس حینذاک کانت على مستویین علمیین أو أکثر، فلا تعنی المدارس ما کان یحضره الولدان الصغار للتعلم، أو ما کان یطلق علیه بعد ذلک لفظ (الکتاتیب) فحسب - وهو نظام تعلیمی کان معروفا قبیل الإسلام وبعده وذکر أیضا على عهد معاویة من خلال رسالته التی وجهها لعماله یحثهم فیها على مناهضة أهل البیت علیهم السلام ؛ بل إنها تختص أیضا بالأماکن التی کان یجتمع فیها کبار علماء المذاهب المختلفة، بین حلقات تتحاور فی مجالات علمیة مختلفة. 

وتصنف مدارس العلماء وکبار رجال المسلمین إلى مستوى جامعی عالی تخرج عنه الکثیر من رجال الفکر والعلم، حیث اتسمت هذه المدارس بتطور ظاهر فی دراسة علوم القران الکریم، واللغة وآدابها، وعلم الکلام الذی نما خلال هذه الفترة العلمیة. وحیث کانت هذه العلوم تتطلب أحوالا خاصة من النقاش والجدال فی الأدلة والبراهین والحجج، وعلى فترات طویلة من الزمن، وهی أحوال ربما کانت مقتصرة على طبقة محددة وواسعة من العلماء الکبار المتخصصین فی هذه العلوم دون عامة الناس ؛ کان من الأجدى والأحسن الانتقال من المساجد إلى حیث المدارس والمواقع الخاصة. بینما کان انتقال دروس الصبیان إلى مدارس أو کتاتیب خاصة بدلا عن باحات المساجد وزوایاها وأروقتها مقبولا خضوعا عند ما کان یتصف به الصبیان من عدم إدراک أهمیة رعایة حرمة المساجد وقدسیتها.  وقد عرف عن الإمام الصادق علیه السلام تأکیده على اجتناب جعل المساجد أماکن للصبیان، حیث قال : "جنبوا مساجدکم صبیانکم ومجانینکم، ورفع أصواتکم وشراءکم وبیعکم والضالة والحدود والأحکام." (45)

وکانت الکتاتیب قد لعبت دورا مهما فی استیعاب الصبیان، وهم الجیل الجدید بعد الأجیال التی عایشت تبلور الشریعة فی أیامها الأولى.  وبذلک تحولت هذه الکتاتیب بحکم استیعابها للأطفال إلى المدرسة التعلیمیة الأولى التی استوجبت رعایة کبیرة خاصة، ولکن هذه الکتاتیب تعددت فی اتجاهاتها بحکم التعدد المذهبی الجدید الذی ظهر بعد ذلک بین المسلمین، ولکنها من حیث المنهج لم تکن تختلف کثیرا، فأصل الکتاتیب بدأ بتدریس وحفظ القرآن الکریم واللغة التی شملت الکتابة والقراءة کمواد أساسیة، واستمرت على هذا المنوال إلى أن تقرر إضافة مبادئ الحساب إلیها.

وقد عرف عن الأئمة علیهم السلام أنهم أوکلوا مؤدبین لتعلیم بعض أولادهم، کما هو الحال بالنسبة للإمام جعفر الصادق علیه السلام، کما اتبع الکثیر من شیعتهم نفس النهج فی تعلیم وتربیة أولاهم، لکن الکتاتیب التی ینتسب إلیها الشیعة تعرضت إلى مضایقات من قبل الدول المتعاقبة فی إطار الحملات العنیفة التی طالت اتجاه التشیع ومؤسساته العلمیة، بینما نمت وترعرعت کتاتیب المذاهب الأربعة تحت إشراف ما کان یطلق علیه لفظ (المؤدب)، وهو المدرس المحترف والمختص بتدریس مواد الکتاتیب.

کانت المادة العلمیة واضحة المعالم ومتقاربة جدا فی الوسط التعلیمی الدینی بین الکتاتیب وغیرها من حلقات العلم المتقدمة، لذلک کانت المدارس الدینیة متشابهة من حیث مادتها فی علوم القرآن والحدیث والفقه والسیرة وغالبیة علوم الآلة کاللغة العربیة والأدب، واستمرت المدارس فی نشاطها التعلیمی منذ نشأتها فی القرن الثانی الهجری إلى أن تبلورت فی هیئتها المعاصرة ونمت إلى مستوى الجامعة. 

ویسجل التاریخ لنا مئات المدارس والمعاهد فی أرجاء البلاد الإسلامیة کافة، لکن أشهرها منذ نهایة القرن الثالث الهجری کانت : دار العلم فی بغداد (381هـ) ودار الحکمة (395هـ) ودار العلم ودار الکتب فی مصر، وبیت الکتب للصاحب بن عباد (385هـ) بالری، ودار الکتب لابن سوار فی رامهرمز، والنظامیة فی بغداد (459هـ) ومدرسة أبی حنیفة (459هـ) ومدارس النجف (448هـ)، والمدارس الشرابیة فی بغداد (629هـ) ومدرسة واسط (632هـ)، والمدرسة المستنصریة (630هـ)، ومدارس مکة المکرمة (641هـ)، والمدرسة المرجانیة (758هـ). ومدارس الکاظمیة والحلة (608هـ)، ومدارس قرطبة، ومدرستا القبة والمرصد بمراغة (656هـ)، ومدارس القسطنطینیة، والمدرسة المربعة فی سمرقند (853هـ)، ومدرسة الرنیق العثمانیة (800 هـ)، وبیت العلم (1308هـ)  فی الهند.

المساجد لیست للفتنة أو التآمر أو التحصن

مما سبق یتضح دور المسجد الحضاری، وأن المسجد یحدد هویة المسلم، وبالتالی لا یمکن للمسجد أن یتحول لمرکز تآمری، حیث توجد جماعة من أمة المسلمین تتخذ من المسجد مکانا للتآمر، وللأسف فإن کل تآمر حدث مسجد، والتآمر یبدأ بالتحصن فی المسجد، ولو عدنا للمصدر الذی یبیح التحصن أو التآمر فی المسجد، نجد أن عبد الله بن الزبیر أول من تحصن فی المسجد الحرام ضد بنی أمیة، وکانت النتیجة أن ذُبح ابن الزبیر وهُدمت الکعبة المشرفة، وهو منهج مخالف لما قام به الإمام الحسین بن علی علیه السلام، فقد قال وقت خروجه من مکة إلى الکوفة: " لأن أقتل خارج الحرم بشبر خیر من أُقتل فی داخله، ولأن أقتل خارج مکة بشبر خیر من أن أُقتل داخلها "، أی أنه لم یحاول استغلال حرمه المکان من أجل حمایة نفسه أو فکره، ولکن ظل تحصن ابن الزبیر هو الأصل الفقهی الذی یتحصن من خلاله کل المتطرفین فی الدین، وهو النهج الذی تحصن به الإسلامیون فی المسجد الأحمر فی باکستان، وقامت الشرطة باقتحام المسجد وهدمه وقتل المتحصنین فیه، وهو ما قاموا به فی الفلوجة بالعراق عندما تحصنوا بالمساجد وحولوها لثکنات عسکریة، وأطلقوا منها النار فکان الرد هو هدم المساجد على من فیها، أما التآمر على القتل فی المساجد، فإن أول من تآمر فی مسجد، فکان من رجال الخوارج الثلاثة عبد الرحمن بن ملجم، والبرک بن عبد الله، وعمرو بن بکر، الذین تآمروا على قتل علی بن أبی طالب ومعاویة وعمرو بن العاص، تآمروا بالبیت الحرام بمکة المکرمة، وقاموا بعملیتهم التی راح ضحیتها علی وحده ونجا معاویة وعمرو، إن موقف الإمام الحسین علیه السلالم الذی رفض المقترحات الموجهة إلیه بالبقاء فی بیت الله الحرام والاحتماء به، مبیناً سبب ذلک بقوله لأخیه محمد بن الحنفیة : یا أخی قد خفت أن یغتالنی یزید بن معاویة بالحرم، فأکون الذی یستباح به حرمة هذا البیت. وقال لابن الزبیر : لأن أقتل خارجاً منها بشبرین أحب إلی من أن أقتل خارجاً منها بشبر. وعلى العکس من ذلک کان موقف عبد الله بن الزبیر الذی احتمى بالبیت الحرام فکان السبب فی استباحة حرمة البیت، وقصف الکعبة المشرفة بالمنجنیق من قبل الحجاج بن یوسف الثقفی الذی جاء مع جیشه بأمر من عبد الملک بن مروان، ودارت المعرکة فی ساحة البیت الحرام، وقتل ابن الزبیر فی وسط البیت. فعلى الإنسان المؤمن أن یحترم المساجد وقدسیتها بأن لا یُعطی الفرصة للأعداء لانتهاکها، لأن المساجد دور للعلم ودور للعبادة فی نفس الوقت.

المبحث الثالث

دور المساجد فی الحفاظ على هویة الأقلیات المسلمة

بعد أن کتبنا عن الدور الحضاری للمسجد، وما یمثله من ترسیخ لهویة المسلم، نجد أن دور المسجد فی الغرب الأوروبی وأمریکا یتعاظم أکثر، لأن الإسلام المسلمین هناک یتعرضون للتشویه، ویقدر عدد المسلمین فی أوروبا بنحو 20 ملیون من إجمالی 490 ملیون، هم سکان الاتحاد الأوروبی، وتمثل الجالیات دائماً هدفاً لنشاطات الممثلیات الأجنبیة من أجل الحفاظ على التأثیرات السیاسیة والاجتماعیة لدول الأصل. کما یثیر تنامی الجالیات الإسلامیة حذر الأوساط الأمنیة الأوروبیة، لأنها تمثل فی نظر الکثیرین طابوراً خامساً "إسلامیاً" داخل أوروبا ذات الخلفیة الثقافیة المسحیة الیهودیة. وتتراکم التعقیدات عبر العقود وتتسع الهوة بین المسلمین ومواطنیهم الأوروبیین فی ظل غیاب مؤسسات تربویة وثقافیة کافیة لإدماج الإسلام ضمن مرکبات الهویة الأوروبیة الجدیدة.

ویواجه المسلمون فی أوروبا العدید من التحدیات، فالبیئة الأوروبیة التی یعیشون فیها، تتکون من مجموعة من الأعراف والتقالید والقیم التی تختزن عناصر القوة بفضل التقدم التکنولوجی والهیمنة السیاسیة والثقافیة، ولا حاجة للقول بأن المهاجرین المسلمین جاءوا غالباً من العالم الثالث الذی یعانی من أزمات ومشاکل اقتصادیة وسیاسیة واجتماعیة. ولعل هجرتهم إلى أوروبا تعود إلى هذه الأسباب والمشاکل فی بلدانهم، فقد جاء معظمهم لتحسین أوضاعهم الاقتصادیة، وکثیر منهم قدموا من مناطق قرویة وریفیة وذوو مستوى دراسی منخفض، وقد جلب هؤلاء المهاجرون "أمتعتهم الثقافیة" معهم والتی تمثل مکوناً أساسیاً فی نظرتهم للبیئة الجدیدة، کما أنها تمثل دافعاً لسلوکهم وفکرهم، على الأقل فی المرحلة الأولى من استقرارهم فی مدینة أوروبیة. إن ردود أفعالهم تجاه الثقافة الأوروبیة تعتمد على مستوى التعلیم والفترة التی یقضونها فی أوروبا. إن الهجرة تترافق دائماً مع تغییر دینی، فعلى مستوى نظام الرمز الدینی (العقیدة والشعائر) تکون هذه التغییرات تدریجیة، وغالباً على مستوى الأفراد، وقد تحدث تغیرات رادیکالیة فی العقائد الدینیة والممارسات من جیل إلى آخر، ترى ما هی تأثیرات التغیرات فی الأوضاع الاقتصادیة والثقافیة والاجتماعیة للمسلمین المهاجرین؟ وما دورها فی التأثیر على دور الدین وأهمیته باعتباره المکوّن الأساسی لثقافة المسلمین؟ فهل تؤدی إلى تقلیص تدریجی لعلاقة المسلم بدینه؟ وهل تؤدی إلى تطویر بدیل آخر لدیه؟ یمکن تقسیم استجابة وتفاعل المسلمین فی الغرب تجاه الثقافة الأوروبیة إلى ثلاثة أقسام(46) :

1-رفض الثقافة الغربیة                                                                           

وهذا ردة فعل طبیعیة من أولئک الذین یعتبرون الثقافة الغربیة تشکل تهدیداً لثقافتهم الأصلیة، وهذا الرد یمکن أن یعزى إلى الدور الهام الذی یلعبه الدین فی المجتمعات الإسلامیة التی جاء منها المهاجرون، فالإسلام یمثل الموجّه الرئیس فی هذه المجتمعات، وهو الذی یمنح الأفکار المرکزیة التی تحتل دوراً کبیراً فی منظومات السلطة وروح الأمة، وفی العقدین الأخیرین أصبح الإسلام القوة الملهمة للآراء السیاسیة، کما صار له سلطة مهیمنة فی المجتمعات المسلمة، عندما یأتی المهاجرون المسلمون إلى أوروبا یتملکهم شعور عمیق بالغربة والعزلة والتمییز، وهذه تعود إلى عدة أسباب مثل الاختلاف فی العادات والتقالید والمحیط الاجتماعی وعدم القدرة على النطق بلغة المجتمع الجدید وضآلة التواصل الاجتماعی مع الأوروبیین، وتصدق هذه الحالة بشکل کبیر على الجیل الأول من المهاجرین المسلمین، فالجیل الأول یکون عادة أکثر توجهاً نحو الدین، ویبدی اهتماماً کبیراً لبناء المساجد، وهذا لا یعنی أن المساجد قد فقدت جاذبیتها إلى حد معین بین الشباب المسلم أو الجیل الثانی، وتعزى هذه الظاهرة إلى استخدام لغة البلد الذی قدم منه المهاجرون فی المساجد وهی اللغة التی لا یستطیع کثیر من الشباب متابعتها أو فهمها، وتعود إلى الأسالیب والمواقف التقلیدیة المتعلقة بکیفیة التعامل مع القضایا الاجتماعیة والثقافیة المعاصرة فی المجتمع الأوروبی،  وتعود أیضاً إلى ترکیز المساجد وخطباء الجمعة على قضایا ومشاکل غیر أساسیة، وخاصة تلک التی لا تحظى باهتمام الشباب مثل سنن الوضوء وآداب الصلاة وأحکام التلاوة وأخبار المجتمع الإسلامی فی القرن السابع المیلادی.

2-الذوبان فی الثقافة الغربیة

یلاحظ بعض الباحثین بأن الجیل الأول من المهاجرین غالباً ما یصبحون أکثر نشاطاً للتدین منه فی بلدانهم الأصلیة، لأن الالتزام الدینی یحمیهم من فقدان الهویة ومن الاغتراب.  بالنسبة للجیل الثانی، على أیة حال، یلاحظ أن الحاجة للتمسک بأهداب الدین تبدو أقل قوة. فهؤلاء یختبرون المجتمع المضیف وثقافته بطریقة تختلف عن طریقة آبائهم. وتعزى هذه الظاهرة إلى اثنیة العقائد الدینیة، فالتفکیر المزدوج للدیانات کالمسیحیة والإسلام الذی یمثل مرحلة سابقة فی التطور الدینی، ویرى هؤلاء الباحثون بأنه فی المجتمع الحدیث بأن کل فرد عندما کان طفلاً قد تعلم عقیدتین مختلفتین، بینما سیواجه قلیلاً أو کثیراً تعارضاً بین البناء الدینی للواقع وبین النظرة العلمانیة للعالم. إن الابتعاد عن الدین الإسلامی، حتى فی حدود ضیقة، لا یمکن أن یعزى إلى تأثیر التعلیم أو وسائل الإعلام فقط، فهناک الکثیر من العوامل الاجتماعیة والثقافیة الأخرى، ومن هذه الأسباب هو غیاب المعرفة الدینیة التی على الوالدین والمنظمات الإسلامیة توفیرها للشباب المسلم، فهذا الدور یبدو غائباً أو یحتل موقعاً هامشیاً فی حیاتهم، وإذن فالجیل الثانی سیبحث عن انسجام مع الثقافة والمجتمع الأوروبیین. إن الثقافة الأوروبیة المهیمنة تمارس ضغطاً على الشباب المسلم بحیث تجعلهم یمیلون إلى إظهار أنهم أنفسهم لدیهم هویة أوروبیة، "إن غالبیة الشباب المسلم یعتبرون الاندماج بأنه التکیف مع البلد الذی تعیش فیه بالقدر الذی یسمح به الإسلام، فعلى کل شخص أن یحترم قوانین ومقررات المجتمع، ولکن یجب أن یکون هناک مکان لبعض المقررات، فبعض القیم والتقالید والأعراق الإسلامیة تشکل جزءاً متکاملاً مع المجتمع. إن الواقع یشیر إلى أن هؤلاء الشباب المسلمین، الذین یدافعون عن هذا الموقف، لدیهم صلات ضعیفة تجاه ممارسة الشعائر الإسلامیة.  

3-التکیف عبر تطویر الفکر الإسلامی

مع زیادة أعداد الأقلیات المسلمة فی الغرب، أدرک بعض الشباب المسلم المتعلم جیداً بأنهم سیعیشون لفترة طویلة فی أوروبا. وأدرکوا أیضاً بأن الأجوبة التقلیدیة المتوارثة من آبائهم على مشاکل معینة یمکن أن تؤثر فقط عندما یعزلون أنفسهم داخل جیب ثقافی ینظر لنفسه.  هذه الحقیقة دفعتهم إلى البحث عن خیار ثقافی یمکن للعناصر الثقافیة الأوروبیة أن تتفاعل فیه مع خلفیتهم الثقافیة والدینیة وتشکیل هویة ثقافیة مشترکة multicultural identity، فهم یبحثون عن منهج ینسجم مع البیئة الأوروبیة بحیث یسمح لهم بأن یکونوا أوربیین دون أن یقطعوا صلتهم بالإسلام. لقد بدؤوا بتطویر بعض الأفکار والمفاهیم من خلال تغییر بعض التقالید المحلیة المتوارثة، مثل المشارکة بالعمل المنزلی أو العنایة بالأطفال من قبل الوالدین معاً، وغالباً ما یجری تفسیر هذه التغییرات على أنها إسلامیة وشرعیة، بل وأنها أکثر صحة، بالمصطلح الإسلامی، من عادات والدیهم، ویعتقدون أن الاندماج integration فی المجتمع الأوربی لا یعنی أن یفقد المسلمون دینهم وخلفیتهم الثقافیة، وقد بدأ هؤلاء الشباب المتعلمون بمناقشة ودراسة النصوص الدینیة التی تعتبر من المصادر المهمة.

المساجد والمآذن فی أوروبا هویة المسلمین

بعد أن استعرضنا الوجود الإسلامی فی أوروبا والمشاکل التی تواجه الجیل التالی وما بعده للتواؤم مع المجتمعات التی یعیشون فیها، وخوفا من فقدان الهویة الإسلامیة، نجد أن ما حدث هو التمسک بالإسلام فی الأوساط الإسلامیة، وبدأ المسجد ومئذنته تعبر عن هویتهم التی یبحثون عنها لدرجة أن أوروبا نفسها تخشى على نفسها من التغلغل الإسلامی ودخول الکثیرین منهم فی الإسلام، حیث بدأت المساجد تُبنى والمآذن ترتفع حتى خشی کثیر من دول أوروبا على هویتها ذاتها، وفی شتى أنحاء أوربا کان یصلی المسلمون منذ فترة طویلة فی مواقف السیارات المغطاة والمصانع القدیمة، والآن یواجهون تشککا وقلقا لرغبتهم فی بناء مساجد ملائمة، وتم بناء البعض، وتوقف الآخر، ویرفض بعض المنتقدین بناء مساجد وینظرون إلیها على أنها إشارات على الأسلمة، ویقول آخرون إن المآذن ستشوه صورة الأفق فی مدنهم، ومع وضع الدور الذی لعبته بعض المساجد کمراکز للإرهابیین فی الأذهان ینظر آخرون إلى المساجد على أنها تهدید أمنی محتمل......... وهذا طبعا تبریر مختلق، لأن المساجد تمثل الدور الحضاری للإنسانیة، ولا یعنی وجود المتطرفین فی بعضها، أن کل المساجد بؤر إرهابیة محتملة، ولکن وفی کل الأحوال صار المسجد من أهم ما یحافظ على الهویة الإسلامیة ،  حیث جعل مسلمی الأجیال الجدیدة تعرف أنها تعیش داخل مجتمع فیه الرموز الإسلامیة، ولعل ما قاله طارق رمضان أحد أبرز المتحدثین باسم الجالیات الإسلامیة فی أوروبا فیه کل الصدق عندما قال : إن التواجد المرئی بشکل متزاید للمسلمین أثار تساؤلات فی کل المجتمعات الأوروبیة، مشیرا إلى مقترحات الجماعات الیمینیة المتطرفة فی موطنه سویسرا العام الحالی بحظر المآذن (47) لقد أصبحت المئذنة جزءًا متممًا للمساجد وعنصرًا أساسیًّا من عناصر تکوینها کالمحراب والمنبر، فالمحراب یحدد اتجاه قبلة الصلاة، والمنبر یعتلیه خطیب الجمعة والمئذنة یُعلن من فوقها أوقات دخول الصلاة.

مشاکل المسلمین فی الغرب بعد أحداث 2001

إن الدین الإسلامی أصبح جزءاً من النسیج الثقافی فی المجتمعات الأوروبیة، وقد تحول من دیانة المهاجرین إلى دیانة مواطنین أوروبیین"، ولکنه "لم یتساو بعد مع الدیانات الأخرى من حیث إقامة أماکن العبادة والتعلیم فی المدارس الأوروبیة وتدریب الکوادر المسلمة"(48) ویمثل تعلیم الدین الإسلامی وتدریب الکوادر والأئمة وتطویر معرفة الفقه الإسلامی فی الجامعات الأوروبیة وإنشاء مؤسسات أکادیمیة متخصصة ضمن التحدیات القائمة من أجل أن یکون الإسلام جزءاً نشطاً من الحیز الثقافی العقائدی فی بیئة أوروبیة علمانیة ومتعددة الثقافات. إن جوهر المشکلة لا یتمثل فی الخطاب الإسلامی ودور الإمام ومدى إلمامه بجوانب الحیاة واللغات الأوروبیة بل "تکمن فی الحاجة الملحة إلى تعلیم الفقه الإسلامی بما یقتضی من موائمة بین القوانین والتشریعات الأوروبیة وقیم حقوق الإنسان والتعددیة". ویجمع الخبراء من مختلف الدول والتیارات حول الحاجة الملحة إلى تعلیم الإسلام فی مختلف مراحل التعلیم من أجل أن یکون جزءاً فاعلاً فی الهویة الأوروبیة الجدیدة.  وتقتضی المعادلة من السلطات العامة والأحزاب التقلیدیة فی أوروبا وکذلک ممثلیات الدول الأصل الکف عن النظر إلى المسلمین من منظار وزارات الشؤون الأمنیة والمنافع السیاسیة. فکلما اتسعت دائرة المعرفة اتسعت رحاب الحوار والفکر ودون ذلک سیکون انتقاصاً من هویة ملایین المواطنین فی أوروبا. لقد عاش المسلمون فی المجتمعات الغربیة وتحولوا من حالة الاستقرار إلى حالة المواطنة والإقامة الدائمة، وهذا التبدل والانتقال طرح أمام سلطات الدول التی یقطن فیها المسلمون إشکالاتٍ جدیدةً وتحدیاتٍ غیر متوقعة، تقتضی معالجةً فوریّةً وحلولاً معقولةً لهؤلاء الذین صاروا مواطنین .. ثم والأهم من ذلک وبعد أن بدأت تتحسن أوضاعهم شیئاً فشیئاً بدأت تنشأ مشاکل جدیدة من معایر آخر ذات أبعاد أخلاقیة وحضاریة تمس بشکل أو بآخر ما یُعتبر مصیریّاً فی تفکیر واعتقاد مسلمی المهجر کالدین والهویة والأخلاق والذریة(49) .

کذلک صارت سیاسة الاندماج التی حاولت أغلب البلدان الأوروبیة المستقطبة للمهاجرین بواسطتها أن تدمج المسلمین والأجانب داخل مجتمعاتها وتجعلهم ینخرطون فی الحیاة العامة بشکل منفتح وتلقائی وإیجابی، لکن هذه السیاسیة قوبلت بالرفض أو التحفظ من قبل المسلمین ؛ لأنهم رأوا فیها تذویباً للوجود الإسلامی فی أتون الثقافة الغربیة(50).

وقد استمرت هذه المحاولات من قبل الحکومات الأوروبیة تجابه برفض عفوی (51)، من المسلمین خشیة الذوبان، حتى وقعت أحداث أیلول / سبتمبر 2001 ضد برجَی التجارة فی نیویورک ومبنى البنتاجون فی واشنطون، وبعدها حدثت حملة تشویه ضد الإسلام والمسلمین، الأمر الذی أدى أن دعت أصوات حکومیة وسیاسیة غربیة إلى ضرورة العودة للحوار مع الأقلیات الإسلامیة لتجاوز حالة التوتر الاجتماعی بین المسلمین والمجتمعات التی یقیمون فیها فی الغرب، فزار تونی بلیر – رئیس الوزراء البریطانی الأسبق – الاحتفال السنوی الذی یقوم بتنظیمه مجلس العموم البریطانی لمشارکة المسلمین بمناسبة شهر رمضان وعید الفطر المبارک فی 1 شوال 1422 – کانون ثانی / ینایر 2002 قائلاً فی الاحتفال إنه یعترف بأهمیة العمل الذی یقدمه المجتمع الإسلامی لبریطانیا(52) . لقد اقترب المسلمون فی الغرب بصفة عامة من التجذر فی الأرض التی یعیشون فیها، ولذلک فإن على علماء الأمة أن یحققوا لهم ما یریدون : کیفیة المحافظة على الهویة الإسلامیة، وکیفیة التعامل البنّاء فی مجتمعاتهم المغایرة لدینهم وهویتهم .

إن أصل الإشکالیات التی تواجه الأقلیات الإسلامیة فی الغرب هو سوء فهم الإسلام فی الغرب بصفة عامة یرجع أساساً إلى تشویه متعمد للإسلام منذ قرون، وهناک فی هذا الصدد الکثیر من الأساطیر فی وصف الإسلام، وهی أساطیر مثل أنشودة رولاند الشهیرة وغیرها من آثار أدبیة تصف المسلمین بأنهم عباد أصنام(53) .

ولا أحد ینکر أن الأحداث الإجرامیة الإرهابیة التی وقعت فی الحادی عشر من سبتمبر عام 2001، قد هزّت الضمیر العالمی هزّاً عنیفاً، وشقّت خطّاً وهمیّاً یفصل بین العالم الإسلامی والغرب، ممّا ترتَّب علیه تضییق الخناق على المجتمعات الإسلامیة فی کل مکان، وبصورة خاصة فی الغرب، وضرب نطاق من الحصار الإعلامی والفکری على العالم الإسلامی، والزج به فی دائرة الصراع المفتعل بغیة التأثیر على مقدراته وإضعاف إمکاناته وربطه بالسیاسة الاستعماریة الجدیدة التی تنتحل الأعذار لتعید عجلة التاریخ إلى الوراء، ببسط النفوذ الغربی الاقتصادی والسیاسی والثقافی على البلدان الإسلامیة.

ولقد نال المسلمینَ فی الغرب قسطا وافرا من هذه الحرب الإعلامیة العدائیة الموجّهة إلى الإسلام عقیدةً وثقافةً وحضارةً وتاریخاً وأمةً ؛ فهم المستهدفون فی المقام الأول، وهم الذین یعانون أشدَّ المعاناة من جراء هذه المواقف العدائیة التی تتخذها بعض الأطراف فی الغرب إزاء المسلمین کافة، وهم إلى جانب ذلک، یقاسون ویکابدون فی صمودهم فی مواقعهم متشبثین بدینهم وهویتهم، ویحرصون على ممارسة حیاتهم فی مواقعهم ساعین إلى تطویر قدراتهم وتحسین أوضاعهم وإثبات کفاء تهم فی العمل والإنتاج وفی الإبداع والتفوّق فی حقول اختصاصاتهم، ولذلک فإن العبء الأکبر فی المعاناة من المشاکل التی ترتبت على المواقف التی اتخذتها بعض الدول الغربیة وقطاعات واسعة من وسائل الإعلام ودوائر البحوث والدراسات إزاء العالم الإسلامی، یقع على المسلمین فی الغرب، باعتبارهم الواجهة الأولى التی تتلقى الضربات وتتعرض للمضایقات.

وأمام هذا الوضع غیر المستقر الذی یعیشه المسلمون فی الغرب، على اختلاف مستویاتهم وتعدّد انتماءاتهم، تَتَضاعَفُ مسؤولیات العالم الإسلامی قاطبة، لیس للوقوف إلى جانب المجتمعات الإسلامیة فی الغرب ومساندتها وشدّ أزرها فحسب، وإنما من أجل قطع الطریق على قیام الحجج التی تستغلها الأطراف المغرضة لضرب الإسلام والتحریض على النیل من المسلمین، وذلک بالمضیّ قدماً فی طریق الإصلاح الشامل لجمیع مرافق الحیاة فی البلدان الإسلامیة، سیاسیاً ودستوریاً، اقتصادیاً واجتماعیاً، فکریاً وثقافیاً، تعلیمیاً وتربویاً، علمیاً وثقانیاً.

إنَّ ثمّة تأثیراً متبادلاً بین مسلمی الغرب وبین إخوانهم فی البلدان الإسلامیة کافة؛ فکلما تحسنت الأوضاع فی العالم الإسلامی، واستقرت الأحوال، وتحقّق قدرٌ مناسبٌ من التقدم الاقتصادی والتطوّر الاجتماعی فی ظلّ الاستقرار السیاسی، انعکس ذلک التحوّلُ بالقدر نفسه، على الأوضاع التی یعیشها مسلمو الغرب، لأنهم یجدون فی ذلک تقویةً لموقفهم الذی یلتزمونه للدفاع عن خصوصیاتهم الثقافیة وحقوقهم ومصالحهم، وبعثاً للثقة فی أنفسهم. وتحسیناً لصورة الإسلام والمسلمین التی ینقلونها إلى المجتمعات التی یعیشون فیها وافدین مندمجین، أو أصلاء مستقرین.

ومهما یکن مستوى الجهود التی یبذلها مسلمو الغرب للدفاع عن شخصیتهم وللحفاظ على خصوصیاتهم الثقافیة والحضاریة ولتصحیح الأخطاء ودحض الافتراءات والشبهات والأباطیل التی تروجها الأطراف الغربیة التی تقف مواقف معادیة للإسلام، فإن هذه الجهود لن تُجدی فتیلاً، ما لم تصلح أوضاع العالم الإسلامی وتستقیم وتتحسّن، وما دام المسلمون أنفسهم لا یصحّحون صورة الإسلام فی ذواتهم أولاً، ثم فی أعمالهم وممارساتهم وسیاساتهم، لأن تصحیح صورة الإسلام فی الغرب تبدأ بتصحیح صورة الإسلام فی موطنه، وذلک من خلال الإصلاح الشامل القائم على أسس علمیة، والمحکوم بالضوابط الشرعیة، والمنفتح على آفاق العصر.

وما دام أن مستقبل الإسلام فی الغرب لا ینفصل عن مستقبل الإسلام فی العالم الإسلامی ؛ لأن هؤلاء المسلمین هم جزء لا یتجزأ من الأمة الإسلامیة ومن العالم الإسلامی، یتأثرون سلباً وإیجاباً بما یجری فی البلدان الإسلامیة، على نحو من الأنحاء، فإن المستوى الرفیع من التطوّر الذی بلغوه  فی حیاتهم بالقیاس إلى الواقع المعاش فی بلدانهم الأصلیة بالنسبة للوافدین منهم من دول العالم الإسلامی، یحملنا على التفاؤل بأن ازدهار الحضارة الإسلامیة سیتعزّز بجهود مسلمی الغرب، وبأن فجر المستقبل المزدهر للإسلام والمسلمین سیبزغ فی الغرب، بمشیئة اللَّه تعالى.

فالنشاط الإعلامی ضد الإسلام فی الغرب بعد أحداث 11 أیلول / سبتمبر 2001 له خلفیاته الثقافیة الفکریة المتعصبة، وهذه الهجمات الإعلامیة تزداد کلما سمع الغربیون عما یسمى بـ" الصحوة الإسلامیة " فی بعض البلاد الإسلامیة (54)، وتزداد مخاوفهم من الوجود الإسلامی لدیها، ولکن الوجود الإسلامی استقر، وصار المسلمون فی الغرب لهم حق المواطنة، ولا یمکن إبعادهم أو إبادتهم، ومن ثم کان لا بد للساسة الغربیین أن یکیفوا واقعهم السیاسی والفکری على وجودهم، مثلما حدث وذکرناه آنفاً من زیارة تونی بلیر لحفل عید الفطر لمسلمی بریطانیا أو دفاع ولی العهد البریطانی عن الإسلام وغیره .

المسجد ومستقبل الأقلیات الإسلامیة  

إن مستقبل الإسلام فی الغرب یتوقف بصفة أساسیة على ثلاثة عوامل (55)  : الأول یتعلق بالعالم الإسلامی، والثانی یتعلق بالمسلمین الذین یعیشون فی الغرب، والثالث یتعلق بالموقف الغربی نفسه، علماً بأن هذه العوامل متشابکة ومتداخلة ..

1- ما یتعلق بالعالم الإسلامی  

إن مستقبل المسلمین فی الغرب یتوقف على مستقبل الإسلام فی العالم الإسلامی ؛ فقوة العالم الإسلامی تعزز وتدعم الأقلیات المسلمة فی الغرب ویزیدها التصاقاً بدینها وتراثها، ومن هنا تأتی ضرورة ربط الجسور بین العالم الإسلامی ومع الأقلیات المسلمة فی الغرب، ومعاونتهم فی تصحیح صورة الإسلام فی أذهان الغربیین بکل الوسائل العلمیة والعملیة التی تعرض صورة الإسلام عرضاً سلیماً لتصحیح المفاهیم المغلوطة الموروثة عن الإسلام، وإصدار دائرة معارف إسلامیة باللغة العربیة واللغات الأجنبیة تعرض الإسلام عرضاً علمیّاً وبطریقة موضوعیة تنأى عن الخلافات بین المذاهب الإسلامیة، کذلک إصدار موسوعة فقهیة مختصرة باللغات الأجنبیة تعین المسلمین هناک على ما یهمهم من أمور دینهم، وترجمة معانی القرآن الکریم باللغات الأجنبیة لخدمة المسلمین وخدمة الراغبین فی التعرف على الإسلام من غیر المسلمین، ومد المسلمین فی الغرب بالعلماء المستنیرین الفاهمین لحقائق الدین والدنیا ..

وینبغی إنشاء قناة تلیفزیونیة إسلامیة تخدم أبناء المسلمین فی الغرب، شریطة ألاّ تکون هذه القناة لها توجه مذهبیّ معیّن، بل هی إسلامیة عامة لکل المسلمین على اختلاف مذاهبهم، ومن ثم مساعدة المسلمین فی الغرب – کلما سنحت لهم الفرص – لإنشاء نظام تعلیمیّ إسلامیّ لکل المراحل الدراسیة .

2- ما یتعلق بالمسلمین فی الغرب  

إن على مسلمی الغرب مسئولیة الدفاع عن أنفسهم وثقافتهم بالمنطق والدعوة الحسنة، فلا بد لهم من الاتحاد فی الدول الغربیة وتوثیق الروابط فیما بینهم، وأن یبتعدوا عن الصراعات المذهبیة الضیقة، کما أن علیهم ضرورة فهم العقلیة الغربیة والتعامل معها من هذا المنطلق ؛ فالتعارف هو الخطوة الأولى للفهم والاحترام المتبادل والتعاون المشترک، کما على مسلمی الغرب أن یجسدوا الإسلام فی سلوکهم الملموس لیکونوا قدوةً ویقدموا صورةً مشرفةً للإسلام، ثم إقامة ندوات علمیة مشترکة مع العناصر الغربیة المستعدة للتفاهم والمحبة والتعایش فی سلام واستقرار مع المسلمین، ومن خلال ذلک یمکنهم إیجاد صیغة مناسبة للحفاظ على الذاتیة الإسلامیة، وفی الوقت ذاته المشارکة الفعالة فی مختلف أنشطة المجتمع العربی دون الذوبان فیه .

3- ما یتعلق بالغرب  

لا بد أن تأتی المبادرة من الجانب الإسلامی قبل الغرب لتحدید مدى تقبل المجتمع الغربی للوجود الإسلامی، وما مدى التعامل مع الإسلام بموضوعیة وتصحیح مفاهیمه عن الإسلام، وهذا یتوقف على الموقف الإسلامی قبل کل شیء ؛ حیث إن المسئولیة تقع علیه قبل کل شیء ؛ لأن المشکلة تعنیهم قبل غیرهم وقبل کل شیء .

ویمکن تحدید بعض النقاط الجدیة التی یجب أن یقوم بها علماء الأمة شریطة أن یکونوا على درایة کاملة بظروف المجتمعات الغربیة وبتحولاتها الفکریة والثقافیة، على أن یکون لعلماء المهجر دور أکبر فی التشریع لمسلمی الغرب، ویمکن وضع بعض الأسس القابلة للنقاش حول وضع الأقلیات الإسلامیة فی :

1- إعادة النظر فی تفسیر نصوص الوحی التی تتعلق بمساکنة الکفار ومناکحتهم، وحتى ما یتعلق ببعض المعاملات کالبیوع والإجارة، فیعاد فیها النظر من قبل العلماء المجتهدین لاسیما المقیمین فی الغرب فی ضوء العلل والمصالح والواقع، فالمصالح التی هی مناط الأحکام یجب أن تُعتبر بالحالة الحاضرة وبالواقع المعاش الیوم (56) .

2- العمل على نشر الوعی الدینی بین مسلمی الغرب لیکونوا قدوةً سلوکیّةً حضاریّةً ؛ فقد قال الإمام الصادق :" کونوا دعاةً للناس بدون ألسنتکم " (57) .

3- إعادة النظر فی تقسیم الدیار مثل دار الإسلام ودار الکفر ودار الظلم، علماً بأن مسلمی الغرب لیسوا فاتحین ولا قاهرین، بل مهاجرون استوطنوا عن رغبة ودون جبر أو قهر ..

وقد أفتى الشیخ عبد العزیز بن الصدیق الغماری – الذی ألّف رسالةً فی جواز الإقامة ببلاد الغرب واحتج فیها للجواز، بل قال بالوجوب فی بعض الأحیان مراعیاً ما یترتب على ذلک من مصالح الدعوة وتحصیل العلوم النافعة التی هی أساس التقدم والقوة ویجب تحصیلها على المسلمین – قائلاً (58) :" إن علة وجوب الهجرة عدم الأمان على الدین، وإن المسلم فی بلاد الغرب یأمن على دینه أکثر مما یأمن علیه فی بلاد الإسلام " ا.هـ .

4- التأکید على أن الأقلیات الإسلامیة فی البلاد الأوروبیة صارت تمثل عنصراً ذا أهمیة بالغة فی نسیج المجتمع الإسلامی ورافداً من روافد الدعوة الإسلامیة التی تعلق علیها الآمال (59) .

5- استنباط الأحکام التی تتعلق بالمعاملات مع غیر الإسلامی من منظور قرآنیّ ومن منطلق تراث إسلامیّ أصیل ؛ فالناس صنفان " إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق " (60) کما قال الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام .

6- تقویة الجانب الروحی المفقود فی الغرب، وذلک لدى المسلمین ؛ فالإنسان باحث عن الحقیقة بالفطرة، وبالوحی الإلهی یمکن الوصول، شریطة ألاّ یحسب أحد من مسلمی الغرب أن ما یستنتجه ویستخلصه من النص الدینی هو الدین نفسه (61) ؛ فالعالم مقبل على تجاوز الحدود الضیقة التی یعیشها الإنسان کدنیا - مادة إلى فضاء أوسع وأرحب .

 

خاتمة الدراسة

سیظل المسجد عنوانا للمسلم، یمثل له العبادة والعلم، النقل والعقل، الصمود والتحدی للعولمة والاستکبار العالمی، لأنه یمثل الهویة الدینیة والثقافیة والسیاسیة، ویبدو وجود المسجد فی الغرب الأوروبی حتمیة هویة، مثله مثل الحجاب، ونعتقد أن مسلمی أوروبا تجاوزوا مرحلة التأقلم إلى مرحلة التبشیر بدین الله الخاتم، وهو ما یقلق الغرب، وعموما إن الإسلام مقبل على مرحلة جدیدة، تتأرجح بین العولمة والهیمنة، التکیف والاستقرار، الصدام والحوار، وإن مسلمی الغرب الذین یعیشون کأقلیات کبیرة نسبیّاً فی دول الغرب لا بد وأنها تتأثر بما یحدث فی دول العالم الإسلامی، وتؤثر فی الوقت نفسه فی سیاسات الدول التی یعیشون فیها بمقادیر مختلفة، فلا بد للمسلمین أن یقوموا بوضع إستراتیجیة عملیة وواضحة وشاملة، یتعاون فیها الجمیع على وضعها أوّلاً وتنفیذها ثانیاً (62) .

کما أن هناک الکثیر من نقاط الاشتراک بین الإسلام والغرب یجب التأکید علیها ضمن إشاعة مناخ الحوار بین مواطنی الغرب والمسلمین الذین یحیون فی دولهم ؛ فهناک تراث قیمیّ مشترک لا یُقدر بثمن ؛ فإن الملاحِظ للنصوص الإسلامیة یجد کمّاً کبیراً من النقل عن عیسى علیه السلام وأمه الطاهرة نقلاً یوجه الحیاة وینقیها (63)  .

ثم والأهم أنه قد مضى الزمان الذی کانت تباد فیه الأقلیات أو یُطردون من دیارهم (64)، والمسلمون على أعتاب عصر جدید بعد أن نجوا بأنفسهم ودینهم عبر تاریخ ممتد شهد فیه فقه الأقلیات الوصول من فقه الهجرة على أساس الضرورة الفقهیة إلى حتمیة إیجاد فقه لمسلمین صاروا مواطنین بإقامات شرعیة، ومن خلال تلک الإقامة الشرعیة لابد من الحفاظ على هویة المسلمین، من خلال الحفاظ على رموزها، والمسجد من أهم تلک الرموز، لأنه وکما قلنا فی هذه الدراسة إن المسلمین یضعفون عندما یتخلون عن المسجد، فالمسجد هو الحضارة والروح الإیمانیة، لکل المسلمین فی دولهم الإسلامیة، أو فی البلاد التی یعیشون فیها أقلیات، والله من وراء القصد .............

مصادر الدراسة

1 –  سورة سبأ : 24، * یراجع بحث الشیخ ناصر الشیبانی (وسائل الحفاظ على الهویة الثقافیة) وهو مقدم للمؤتمر الحادی عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامیة بالقاهرة – بعنوان نحو مشروع حضاری لنهضة العالم الإسلامی، ببعض التصرف .

2 – سورة الغاشیة : 17

3 – سورة یونس : 101

4 – سورة سبأ : 10

5 – سورة هود : 37

6 – سورة آل عمران : 14

7 – سورة یوسف : 2

8 – سورة الأنعام : 38

9 – محمد الغزالی - تراثنا الفکری فی میزان الشرع والعقل – مکتبة الشروق – القاهرة – 1986- ص 117

10 – سورة العلق : آیة 1 وما بعدها

11 – سورة القلم : 1

12 –  سورة الطور : 1و2

13 –  متفق علیه عند أهل السنة

14 – رواه مسلم

15 – الأنعام :162-163

16 – سورة الأنعام : 153

17 - الدکتور ولید فتیحی - المسجد ودوره التعلیمی عبر العصور من خلال الحلق العلمیة لعبدالله الوشلی

18 - د. راغب السرجانی – المساجد فی الإسلام

19 - رواه أبو داود (449)، والنسائی (689)، وابن ماجه (739)، وأحمد (12402). قال الشیخ الألبانی: صحیح. انظر حدیث رقم (7421) فی صحیح الجامع.

20 -  أدرجنا هذا الحدیث وما بعده، لا لإثبات حرمة تزیین المساجد، ولکن للتأکید بأن قیمه المسجد فی ما یقوم به، ولکن طبعا لا بأس من تزیینها، وقد روى الحدیث  ابن خزیمة (1321)، وقال الشیخ الألبانی : ضعیف.

21 -  رواه أبو داود (448). قال الشیخ الألبانی: صحیح. انظر حدیث رقم (5550) فی صحیح الجامع، ولکنه مع الحدیث السابق لا یرقى لاعتباره من ضروریات الدین .

22 -  البخاری فی صحیحه 1/ 171، وأبو داود فی سننه 1/ 176.

23 – سورة البقرة: 114

24 – سورة البقرة: 114

25 - الشیخ زین الدین العاملی -  منیة المرید فی آداب المفید والمستفید. ص 106، وذلک نقلا عن الأستاذ کریم محروس – مقال (مراحل نشوء وتطور التعلیم الدینی: مرحلیة التعلیم وانتقاله) المنشورة فی موقعhttp://www.annabaa.org/nbanews/63/12.htm

26- علی البهادلی. الحوزة العلمیة فی النجف الأشرف ص24. عن تاریخ التربیة الإسلامیة. شلبی. ص68

27- المجلسی. بحار الأنوار. ج46. انظر  (الفصول المختارة)  للمفید. ص43.

28- النجاشی. الرجال. ص10.

29 - القمی. من لا یحضره الفقیه،  ج4. ص272

30- النجاشی. الرجال. ص10-11

31- المصدر السابق. ص10-11

32- الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة م1. ص33

33- الحوزة العلمیة فی النجف. ص26

34- انظر (المفید. الفصول المختارة ). ص31

35- الکلینی. الکافی ج2 ص 294.

36- الطوسی. الفهرست. ص136-137.

37- المصدر السابق. ص 64

38- انظر"أمالی السید المرتضی".

39- الحوزة العلمیة فی النجف. ص28. عن تاریخ التربیة الإسلامیة،  احمد شلبی.م ص113

40 - أصول المدرسة فی الإسلام -  مجلة الفکر العربی ع 20 آذار.1981

41- علی البهادلی النجف - جامعتها ودورها القیادی. ص114.

42 - الحوزة العلمیة فی النجف. ص33

43 - نفس المصدر السابق. ص32

44 - وفیات الأعیان. ج3. ص 313-314.

45 - من لا یحضره الفقیه. ج. 1. ص 222

46 –  من شبکة المعلومات الدولیة الإنترنت

47 – علی أبوالخیر – بحث حول حظر بناء الکنائس فی سویسرا – منشور فی جریدة الأنوار المصریة – العدد 153 – مایو 2010

48 – م.س

49 - التیجانی بولعوالی – اندماج المسلمین فی الغرب بین الإمکان و اللا إمکان – بحث منشور فی جریدة النور اللندنیة – العدد 167 – نیسان / أبریل 2005

50 - نفسه .

51 - من دلائل هذا الرفض العفوی : حرص الفتیات المسلمات على ارتداء الحجاب والذهاب به إلى مدارسهن وتحدی القرار الفرنسی فی حظر ارتداء الرموز الدینیة فی المدارس الحکومیة الفرنسیة ..

کما یجب التأکید على أن مسلمی المهجر استطاعوا الحصول على الاعتراف بهویتهم الإسلامیة رغم محاولات التذویب، فبنیت المساجد فی لندن وباریس وأمستردام وبرلین ونیوجیرسی وغیرها من الدول الأوروبیة والأمریکیة .

52 - نقلاً عن تحقیق بمجلة النور – فی احتفال مجلس العموم بعید الفطر – العدد 128 ..

ومن خلال هذا الحفل السنوی الذی یقیمه مجلس العموم البریطانی، کذلک ما حاول بوش الابن الاعتذار عن فلتات لسانه عندما تحدّث عن حرب صلیبیة جدیدة، ولقاؤه مع ممثلی المسلمین فی الغرب، کذلک تراجع بیرلسکونی عن نفس المفهوم الصلیبی یثبت أن الوجود الإسلامی فی الغرب بصفة عامة صار حقیقیّاً رغم التفرقة ومحاولات الإذابة المستمرة والتی ثبت فشلها، والتی تتطلب فقهاً نوعیّاً یواجه هذه الحقائق المستحدثة .

53 -  د. محمود حمدی زقزوق – الاستشراق والخلفیة الفکریة للصراع الحضاری – دار المنار – القاهرة – 1989 – ص29

 54 - د. محمود حمدی زقزوق – الإسلام والغرب – منشورات المجلس الأعلى للشئون الإسلامیة – القاهرة – 2003 – ص120

55 - المرجع السابق – ص121 وما بعدها ببعض تصرف .

56 - محمد المختار بن إمبالة – التنظیر والتأصیل لفقه الأقلیات الإسلامیة – بحث منشور ضمن مجلد " التجدید فی الفقه الإسلامی " – مرجع سابق – ص646

57 - الإمام جعفر الصادق – نقلاً عن کتاب الوحدة الإسلامیة – محمد باقر الحکیم – مرکز یافا للدراسات – القاهرة – 2001 – ص132

58 - محمد المختار – مرجع سابق .

59 - نفسه .

60 - نهج البلاغة – دار الفکر العربی – بیروت – بدون تاریخ ج4/ ص 15 .

61 - محمد خاتمی – مطالعات فی الدین والإسلام والعصر – دار الجدید – بیروت – بدون تاریخ – ص126

62 - الشیخ محمد علی التسخیری – العالمیة والعولمة وموقف الأمة – دراسة منشورة فی مجلة التوحید – طهران – العدد 111 – ربیع 1424 هـ - 2003 م – ص26

63 - الشیخ محمد علی التسخیری – القیم والمصالح أساس العلاقات بین المسلمین والمسیحیین – بحث منشور فی مجلة " ثقافتنا " – طهران – العدد الأول – ص40

64 - لا بد من الإشارة هنا إلى خصوصیة الوضع الفلسطینی، علماً بأن عملیة التهجیر القسری خلال حرب 1948 لم تعد تجدی من قبل الدولة الصهیونیة بعد أن ترسخت العقیدة الإیمانیة المجاهدة فی المقاومة عبر فقه الصراع أو الجهاد الحتمی .

 

 

 

 

 

 

ثبت دیدگاه